شغف الإشاعة

آراء 2019/01/16
...

نصير فليح 
 
لعل من السمات التي يمكن ملاحظتها بوضوح في مجتمعنا هي سهولة تلقي وتصديق الإشاعات. وقد ظهرت في الآونة الاخيرة في الأحاديث الاجتماعية ووسائل التواصل الاجتماعي مجموعة من الأخبار غير المؤكدة، او ربما لا اساس لها، ولكن ردود الفعل تجاهها والتأثر بها كان ملحوظاً. وهو ما يستحق التوقف قليلا مع جذور هذه الظاهرة.
عندما سقط النظام السابق عام 2003 كانت وسائل الاعلام محدودة جدا، اما الانترنت فقد كان ممنوعا. ولهذا عندما انفتح المجتمع العراقي على هذا الكم الهائل من القنوات الفضائية ووسائل التواصل الاجتماعي، فان تحولاً اجتماعياً مهماً قد حدث، لجهة تنوع المصادر التي يمكن الوصول الى المعلومة من خلالها، وايضا القدرة على سماع الاراء المتنوعة بخصوص اي موضوع، مما يفترض ان يؤدي الى توسيع في الافق السياسي. لا سيما وان هذه الوسائل، اي الاعلامية ووسائل التواصل والانترنت، ذات حضور يكاد يكون يومياً وقوياً يصل الى كل افراد المجتمع تقريباً.
من هذا الباب، فان ظاهرة التصديق والتداول الواسع للاشاعات كان يتوجب ان تضمحل "نظرياً"، فما يعلنه مصدر ما، مثلا، لا يلبث ان ينكره طرف آخر، او يوضحه طرف ثالث، وهكذا تتجمع مصادر المعلومة بما يمكن ان يجعلها اكثر موثوقية ووضوحاً في نهاية المطاف.
لكن الاستمرار في التأثر بظاهرة الاشاعات يحيلنا الى جانب  آخر، وهو الجانب النفسي-الاجتماعي، وحالات مثل الاستقطابات والمواقف المسبقة التي تجعل شريحة اجتماعية معينة "في حاجة" الى خبر معين لتصدقه وتروجه، بغض النظر عن واقعيته ومعقوليته من عدمها.
واذا عدنا الى بعض النقاط التي يشير لها علي الوردي في كتاباته، مثل حب الجدال في مجتمعنا ولا سيما في المواضيع السياسية، وما يسميه ايضا الازدواجية التي تجعل الكثيرين يتحدثون وينتقدون وكأنهم ليسوا راصدين لكل العيوب فقط، بل ومنزهين عنها ايضا، سنجد اسباباً اضافية ايضا. وهكذا نجد ان العديدين ينخرطون في موضوع الاشاعة مثلما ينخرطون في اي موضوع آخر، لا سيما المواضيع السياسية، في حالة اشبه بالعادة اكثر مما هي حالة تتعلق بخبر مهم له مصداقيته او لا.
الوضع السياسي الحالي المتأرجح نفسه يمثل ارضية اخرى يمكن للاشاعات ان تنشط فيها. فاحداث مثل زيارة ترامب الاخيرة الى القاعدة العسكرية الاميركية في العراق وما اثارته من تساؤلات، وسحب القوات الاميركية من سوريا وما يمكن ان يترتب عليه، والمؤتمر الجديد الذي تدعو اليه الولايات المتحدة لتشكيل حلف عسكري  في المنطقة من بعض الدول العربية، او رفع الاعلام الكردية في كركوك، او بعض الخلافات الاخيرة داخل ما يسميه البعض "البيت الشيعي"، كلها عناصر تصب في فتح شهية قديمة.
او ربما أيضا هو "اليأس" من تغيير ايجابي في الاوضاع، بعد كل ما سمعه ورآه الناس من وعود واوهام، ما يجعلهم راغبين في تحويل بعض ما يتمنون او يتخيلون الى واقع، حتى لو كان وهماً لا اكثر.