غنية الجويبراوية.. ناعية من أهوار سوق الشيوخ

ثقافة شعبية 2020/11/28
...

 الديوانية: عباس رضا الموسوي
 
 
منذ كنت طفلًا يافعًا اركض خلفها أينما ذهبت ممسكًا بردن عباءتها المتهرئة، كعبادة شمس ادور معها ذات الشرق وذات الغرب، ولم لا؟ وهي الام والأب الذي لم اره وكانت وما زالت ناعيتي المفضلة، لذا كنت أغفو واصحو على صوتها الشجي وهي تطرب نعيًا من أشعارها وما حفظت من الموروث الجنوبي الغارق في الحزن: «ظليت طول الليل احسب.. ومن صفحة ال صفحة انجلب.. نوم البلايه انعاس يتعب».
بدأت هموم الناعية غنية الجويبراوية، مبكرا، بوفاة والدتها وهي مازالت عروسا وبعد عام توفي جدها وفي العام الثاني توفت جدتها ومن ثم توفى زوجها لتبتلي بتربية ثلاثة أيتام: «من حملوا ما حملوني.. حطيت رجلي ونزلوني».
زاد معاناتها تخلف شقيقها عن الوفاء: «اجيت لابن امي بهومه.. ومن شافني طول النومه.. خاف من مرته تلومه” وعن شقيق اخر وجدت لديه ضالتها من الوفاء: “من شافني طيب اللبن كام.. وكثر عليا بالسلام”.
ولدت غنية الجويبراوية سنة ١٩٤٧ في هورة ال جويبر التابعة لسوق الشيوخ، متأثرة بتلك البيئة الغارق في الماء والغناء.. الأصوات الشجية تأتي من بين القصب والبردي لرجال يغنون وهم عائدون من رحلات صيد ونسوة حاشوشات، يجدن في الهور مكانًا لينطلقن بالنعي الطافح حزنا، من تلك التخوم النضرة صدحت حنجرة غنية الجويبراوية، بإنشاد موحش حزين: “ياخوي امي شوصتك.. وفوك الوصية حبتك.. طرف النزل عينك على أختك”.
ولأني صغيرها؛ فقد رافقتها وما زلت، كل مراحل حياتها، باتراحها الكثيرة وأفراحها القليلة، واتذكر جيدا كيف كانت وهي تقطف القصب والبردي بمنجلها الباشط تطرب نعيًا مدويًا فتكسر صمت الهور معبرة عن خيبة الحظ التي حالفتها طيلة مسيرة حياتها الحافلة بالأحداث الموجعة، لذا صارت معرفتي بها وبما تريد تكتفي بالإشارة، فعندما أصحو على نعيها المعاتب للابن ادرك اني قصرت بشيء معها: “ربيت الولد گريم.. وخليته يلوح الغيم.. وحسبالي يزيح الضيم”.
وعلى الرغم من دخولها العقد الثامن من العمر، فانها ما زالت تطلق حنجرتها للنعي عند الصباحات، ولا اتذكر اني استفقت على صوت غير نعيها وكأنها تريد ان تتلقى نهارها بالنعي.
قبل نحو سنة فقدت ولدها الأكبر، بالسرطان: “كون الگبر ينضاف ضيفه.. واكباله ابنيلي صريفه.. واعرف مريضي اشلون كيفه”.