المعالجة السطحية والاصلاح العميق لسلبيات المجتمع

آراء 2019/01/26
...

محمد عبد الجبار الشبوط

يتألف العمران البشري او المجتمع من ثلاثة عناصر هي:
الانسان
والارض
والعلاقة المعنوية التي تربط الانسان بالانسان من جهة اولى، وتربط الانسان بالطبيعة من جهة ثانية.
ومن هذه العناصر يتم بناء المجتمعات البشرية. 
و يتألف هذا البناء من طبقتين رئيسيتين، الطبقة التحتية و هي الاساس، والطبقة الفوقية و هي الظواهر الاجتماعية والسياسية الخ الخارجية للمجتمع.
فاما الطبقة السفلى او البناء التحتي فهي عبارة عن المحتوى الداخلي للمجتمع، وهي تتألف من عنصرين هما الافكار+الارادة. والافكار هي القيم العليا الحافة او المصاحبة للمركب الحضاري للمجتمع وهي التي تضع للمجتمع اهدافه ومثله العليا. ويتألف #المركب_الحضاري من خمسة عناصر هي: الانسان والطبيعة والزمن والعلم والعمل، حيث يشكل الانسان المحور الاساسي للمركب الحضاري. وهذا كله يشكل المحتوى الداخلي للمجتمع. والمحتوى الداخلي هو الذي يتحكم في سير المجتمع وحركته وتطوره او تاخره.
واما الطبقة العليا للمجتمع فهي عبارة عن الظواهر الاجتماعية العامة وخصائصه الخارجية  بما فيها من ايجابيات و سلبيات. وهي انعكاس وامتداد للمحتوى الداخلي للمجتمع، او لطبقته السفلى.
دائما تستهدف عمليات التغيير والاصلاح المحتوى الداخلي للمجتمع. فبتغيير المحتوى الداخلي يتغير المجتمع، وباصلاحه، اذا كان يعاني من اي خلل، ينصلح المجتمع. اما التغييرات التي تمس فقط الظواهر الاجتماعية الفوقية، اي البناء العلوي، اي التي لا تمس البناء التحتي للمجتمع، فلا تلبث ان ترتد، وهذا قانون اجتماعي تاريخي اكده في العصر الحديث عالم الاجتماع السياسي الفرنسي الين تورين في كتابه العظيم "انتاج المجتمع".
يصاب المحتوى الداخلي بعيوب او خلل، فينعكس ذلك على البناء العلوي للمجتمع، على شكل مشاكل وامراض وظواهر خارجية سلبية كالفساد والظلم والتمزق وضعف الانتاجية وغير ذلك.
وهناك طريقتان لمعالجة الظواهر السلبية. العلاج السطحي والعلاج العميق. فاما الاصلاح السطحي فيتعامل مع الظاهرة السلبية فقط دون العودة الى جذورها واسباب تشكلها الكامنة في المحتوى الداخلي للمجتمع. وقد تحقق المحاولة السطحية بعض النجاح العاجل، ولكنها ما تلبث ان تفشل وتنهار وتسقط على المدى المتوسط او البعيد. ويتاكد هذا اذا كان سبب الظاهرة السلبية متعلقا بالانسان، وهكذا هو حال معظم الظواهر السلبية. فالانسان هو مصدر الفساد ومصدر الخير في المجتمع، فاذا لم يتم التعامل معه باصلاح محتواه الداخلي، فان اية محاولة خارجية لاصلاح ما افسدته ايدي الناس سوف تبوء بالفشل في نهاية المطاف.
قد يعمد بعض الناس الى العلاج الظاهري استعجالا للنتائج، لكن هذا الجهد سرعان ما يضيع بعد ان تتغلب الاسباب الداخلية والتحتية للظاهرة السلبية على الاصلاح الخارجي. ولهذا فشلت الجهود الاصلاحية التي بذلها بعض الولاة العثمانيين في العراق في القرن التاسع عشر لانها كانت اصلاحات بالقشور وليس باللب، ولم تصل الى عمق المحتوى الداخلي للمجتمع العراقي.
يعاني المجتمع العراقي اليوم من ظواهر سلبية كثيرة، في مقدمتها الفساد السياسي والاداري، وقلة الانتاجية من قبل الموظفين الحكوميين، وعطالة اليد العاملة المنتجة، وغير ذلك، مما انعكس على سوء الخدمات، كالكهرباء والماء الصالح للشرب، وسوء الاداء الحكومي (والشعبي ايضا). 
وجرت بعض المحاولات لمعالجة هذه الظواهر السلبية ولتحقيق نتائج سريعة باعتبار ان الشعب يريد هذه النتائج السريعة، لكنها فشلت ولم تثمر شيئا، لانها كانت محاولات انشغلت بالقشور والسطوح ولم تنزل الى الجذور والاصول. 
وسيبقى الحال على هذا الوضع إنْ لم يتوجه المصلحون والداعون الى محاربة الفساد وتحسين الاداء الحكومي الى المحتوى الداخلي للمجتمع العراقي واعادة بنائه وتأهيله من جديد ليكون الاساس الصالح والمتين ليس فقط للقضاء على الظواهر السلبية وانما لبناء وتأسيس ظواهر ايجابية بنّاءة.
هذا النوع من الاصلاح هو في حقيقته وطبيعته عملية تغييرية اجتماعية ثقافية تستهدف بناء القيم العليا المصاحبة او الحافة بعناصر المركب الحضاري.
هذه العملية في طبيعتها اكثر من تغيير الوزراء واستبدال موظفي الدرجات الخاصة والغاء بعض المناصب. كما انها اكثر من الخروج الى الشارع والتظاهر ومطالبة الحكومة والبرلمان بمحاربة الفساد وتحسين الخدمات وتوفير الكهرباء والماء الصالح للشرب. لان كل هذه المطالبات تموت او تحيا على يد الانسان الذي يقوم بتنفيذها واجرائها، فاذا كان الانسان الذي يُجري هذه الاعمال مصابا بالخلل في مركبه الحضاري، ومصابا بانهيار القيم المصاحبة، ومتخلفا في تعامله مع عناصر المركب الحضاري، انهارت الجهود الاصلاحية ولم تنجح في تحقيق شيء. 
الاصلاح الحقيقي يكمن في اعادة بناء المحتوى الداخلي للانسان بالقيم الحضارية الحافة بعناصر هذا المركب.
 وقد تستغرق هذه العملية وقتا طويلا قد يمتد الى 12 سنة كاملة اذا تقرر المباشرة بهذه العملية التربوية والثقافية من خلال دورة دراسية كاملة يخضع لها المواطن العراقي منذ الصف الاول ابتدائي حتى نهاية الصف السادس ثانوي.
وهذه هي الطريقة العميقة في اصلاح الظواهر المجتمعية السلبية.