فضل ناقد قديم بيتاً شعرياً لابن نباتة السعدي على بيت لأبي الطيب المتنبي، وكلا البيتين قيلا في مديح سيف الدولة، وابن نباتة استلهم بيته من بيت المتنبي والمعلِق على البيتين هو ابن أبي الإصبع، وتحديداً في كتابه (تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر)، وهذا كتاب في فنون البديع.يعترض ابن أبي الإصبع على بيت المتنبي بمدحه سيف الدولة حيث يقول:
تمسي الأمانيُّ صرعى دون مبلغه فما يقول لشيءٍ ليت ذلك لي
يعتقد ابن أبي الإصبع أن البيت ينطوي على (سوء أدب) في مخاطبة الممدوح، ذلك أن المتنبي جعل الأمير الممدوح بلا أمل، وبموجب هذا فإن من الغالب ما يتم تفادي مثل هذا التعبير في منطق مخاطبة الملوك والأمراء حتى وإن كان ذلك بقصد المديح. فكل ما قد يتطيّر منه البشر لا تنبغي الاستعانة به في المديح والثناء على سجايا الممدوح، وتاريخ شعر المديح العربي مليء بما يتورط به الشعراء من إشارات للموت أو لقصور مخربة أو أي فال سيئ آخر. كل هذا بموجب تصور ابن أبي الإصبع، لكن في واقع النص ليس في البيت ما يشير إلى أن المتنبي أراد جعل الأمير بلا أمل. فالأمل هو لمن يعوزه شيء، بينما الأمير في بيت المتنبي امتلك كل شيء. وحسب ابن فورجه في كتابة (الفتح على ابي الفتح)، وكان بصدد تفسير بيت المتنبي فإنه قال:» وتمني الشيء عجز وقصور، والملك لا ينبغي له أن يتمنى». لم يتمنَّ الأمير في بيت المتنبي، كانت الأماني ــ ببيت المتنبي ــ هي من تسعى إلى قلب وعقل الممدوح فتعجز عن بلوغهما، من حيث أنه امتلك كل ما هو نفيس ومتمنَّى.
لم يتذمر سيف الدولة من بيت المتنبي، كان الأمير واحداً من أثقف الحاكمين في التاريخ العربي الإسلامي. لكن اعتراض صاحب كتاب (تحرير التحبير) ذهب إلى أن:» المتنبي جعل ممدوحه ممن يصحّ منه التمني لو كانت بقيت له أمنيته»، وهو تفسير يمكن أن يكون متعسفاً. وبموجب هذا التفسير فإن ابن أبي الإصبع يشير إلى (حسن أدب) ابن نباتة السعدي البغدادي، حين استثمر بيت المتنبي فأعاد صياغته بما جعل من نفسه، أي الشاعر المادح، بلا أمل، لا الأمير الممدوح. يقول بيت ابن نباتة:
لم يُبقِ جودك لي شيئاً أؤمله
تركتَني أصحبُ الدنيا بلا أمل
ويبدو الاعتراض مقبولاً إلى حد ما، كما يبدو بيت ابن نباتة أقرب إلى (الإدراك) وأسرع في تلبيته لـ (الفهم) وبالتالي فبيت أبن نباتة أكثر تحرراً من عسرة تعبير بيت المتنبي، وهذا ما لم يقله الناقد ولم ينشغل به. غير أن مشكلة رأي ابن أبي الإصبع تكمن في جانب منها بكون الرأي النقدي هنا ينصرف عما هو فني إلى ما هو أخلاقي.
ومناسبة حكم ابن أبي الأصبع على البيتين لا تكرس هذا الانصراف فحسب، بل هي أيضاً تبالغ في إملائها على الشاعر ليُذعِن فنه الشعري إلى ما هو (أخلاقي). هذه المناسبة تأتي في سياق (نصح) يقدمه مؤلف (تحرير التحبير) للشعراء بقوله:» وإذا أخذتَ معنى بيتٍ من بيت فتجنب الألفاظ جملتها ما استطعت، أو معظمها، وغيِّر الوزن والقافية، وزد في معناه، وانقص من لفظه، واحترس مما طعن عليه به، لتكون أملك له من قائله وإن كان التفضيل قد يقع بغير ما ذكرت، ومما يقدم به المتكلم على غيره حسن الأدب مع الممدوح». وهذا نمط من النصح التعبيري والبلاغي شائع في قديم النقد والبلاغة، يجوز معه لشاعر أخذُ المعنى من شاعر آخر ولكن باشتراطات منها تجنب تكرار ألفاظ الأول وتغيير الوزن والقافية، ويضيف الناقد مبدأ الاحتراس مما طُعن عليه الشاعر القديم بمعنى من معانيه الشعرية حين يستفيد شاعر تالٍ من معنى بيت شعري لذاك القديم ليكون الشاعر التالي أملك (أكثر امتلاكاً) للمعنى من الشاعر الأول، أي أن يضحى مَن يعيد صياغة المعنى أكثر مِلكيةً له من صانعه الأول!
لكن بيت المتنبي لم يُطعن فيه. لم تشر إلى مثل هذا الاعتراض معظمُ شروح ديوان المتنبي وكثيرٌ من التعليقات التي وضعها أشد مناكدي أبي الطيب. يقول أبو العباس المهلبي في مآخذه على شرح التبريزي لديوان المتنبي بكتابه (الموضح):» إن معنى قوله: دون مبلغه أي دون بلوغه الأشياء. يقول: إنه قد بلغ من الأشياء ما تقصر الأماني عن بلوغه. فهو لا يقول: (ليت) لأن ليت للتمني والتمني إنما يكون للشيء الذي لم يحصل».
يفضّل كتاب (تحرير التحبير) بيت ابن نباتة السعدي على بيت أبي الطيب لداعٍ (أخلاقي) جعل ابن نباتة يذهب إلى تغيير المعنى ليكون الشاعر، وليس الممدوح، هو الذي بلا أمل من حيث أغدق عليه جود الممدوح فلم يبق له ما يأمله، وهذا نمط من وضاعة المديح وتدني قيمة نفس المادح مقابل المبالغة في إطراء الممدوح، وهو نمط ترفّع عليه المتنبي الذي غالباً ما يمتدح ذاته وينشغل بكبريائه وتذمره وقرفه قبل مدح الممدوح، بيت المتنبي موضوع اعتراض أبي الإصبع جاء في قصيدة يقول أحد أبياتها:
قد ذقتُ شدّةَ أَيامي ولذَّتَها
فما حصلتُ على صابٍ ولا عسلِ
وهو بيت يمكن الإشارة إليه ووضعه مقابل بيت ابن نباتة وذلك إن أردنا الوقوف على الفارق بين نمطين وأخلاقين؛ نمط مديح المتنبي، ونمط سواه، خُلُق المتنبي وخُلق سواه.
نعم كثيراً ما (يسيء) أبو الطيب الأدب ولكن فقط حين يكون سوء الأدب ضرورة. جانب أساس من قيمة المتنبي، شاعراً وإنساناً، هو في (سوء الأدب) كما يعبّر عنه بكبرياء وترفعٍ وتعالٍ في مواضع توجب ذلك، إنما ليس في هذا البيت تحديداً ما يسيء الأدب. لقد لوى مؤلف (تحرير التحبير) البيت ليقارب فكرة أخلاقية أدبية أراد إيصالها في كتابه المعني بأنواع البديع فأساء الاستشهاد.
بيت ابن نباتة أقرب إلى (الفهم) لخفته وسطحيته، لكن بيت أبي الطيب أعسر على الإدراك المباشر وذلك من حيث عمقه وما تضمنه من (معنى بديعي) بتعبير أبي العلاء المعري.