في « استعارة الرخام» .. الثقافة والأدب في العراق، يسعى الاستاذ علي حاكم صالح إلى تفكيك التشكلات الأول للثقافة والأدب في العراق، عبر تناول عدد من الظواهر الثقافية والكتابات التي تمثل اللبنات التي ساهمت في صناعة الوعي والثقافة والأدب في العراق. فـ « علي الوردي» و « فالح عبد الجبار» لا يمكن انكار دورهما في حمل الوعي الاجتماعي الى مديات جديدة، ومختلفة. والاستاذ علي افرد لكل منهما فصلا خاصا، إيمانها منه بأهمية دورهما في وتأسيس وتشييد الأفكار القائمة حاليا. كذلك تناوله قضية الأجيال الشعرية التي لازالت موضع اهتمام وتناول كبيرين من قبل فئة كبيرة من النقاد والشعراء العراقيين، رغم مرور وقت طويل على صدور أول كتاب يتناول ظاهرة الأجيال الشعرية وخصوصا الجيل الستيني. الفصل الآخر، والأكثر أهمية برأيي من باقي الفصول، والذي يتناول اهم وأخطر ظاهرة ثقافية، وهي التبعية الفكرية والترجمة. في مقدمة هذا الفصل، يتحدث ينتقد الكاتب مسألة التبعية الثقافية للجانب السياسي والاقتصادي. ويبدو أن الاقتصاد بوصفه المحرك الباقي مفاصل الحياة، لا يمكن التحرر سياسيا وثقافيا، مادام الاقتصاد تحركه جهات خارجية، ومادام البلد، خاضع لمزاجات خارجية، فإن السياسة والثقافة، ستكونان تابعتين بالضرورة. والفكرة الاساسية لبحث « الترجمة والتبعية الفكرية في العراق» كما يقول الكاتب هو أنه يريد إثبات أن التبعية الفكرية نتيجة لازامة عن التبعية الاقتصادية والسياسية. كذلك إثبات أن الترجمة في الوقت الذي ينبغي أن تكون أداة للانفتاح الثقافي واكتساب الخبرات الخارجية وتأثيث الفكر المحلي بالأفكار والآراء التي تغطي المساحات الفارغة من مشروع تشكيل الثقافة العامة التي بدورها تقوم بتشكيل باقي النواحي، سواء السياسية أو الاقتصادية، تحولت الترجمة في العراق، إلى أداة لتكريس خطاب التبعية للآخر، والسعي لنسخ الفكر المترجم في داخل البلد، وتحويله إلى واقع معاش، يتبع ويسير وفق ما يريده صاحب الفكر الأصلي، بقطع النظر عن الطبيعة الثقافية والاجتماعية للبلد، ومدى تقبل المجتمع للأفكار الجديدة. ويكشف بحث « التبعية الفكرية..» جانبا مهما وهو فشل المثقفين في إيجاد نسق مغاير ومختلف عن نسق السياسة والاقتصاد. وعلى سبيل المثال، فإن الاستاذ صالح يبين أن بدايات النهضة الثقافية، لم تكن نتيجة لوعي ذاتي، أو جهد محلي بحت، وإنما كانت نتيجة لاعلان الدستور العثماني، يوم كانت بغداد، ولاية عثمانية. ويشير أيضا إلى أن بدايات نشوء الوعي الثقافي، كان عبارة تلقي فتات ما تجود به الثقافة المصرية، والمثقف العراقي يستجدي الثقافة من المثقف اللبناني والمصري. وأي ثقافة كان المثقف العراقي يريد؟ كانت ثقافة التابع الذي يسعى لنشر ثقافة خارجية، يرى أنها الأجدر والأمثل في أن تقود الثقافة في البلد. فالمثقف، لم يكن يريد من الترجمة المساهمة في تأسيس الدولة والحكومة، بل كان يريد للفكر الذي يؤمن به أن يكون هو السائد والمحرك للحياة الثقافية والسياسية. عدا قيام سليمان نظمي أثناء السعي لكتابة أول دستور للدولة، والذي سمي بالقانون الأساسي بداية عشرينيات القرن الماضي، بترجمة القانون الأساسي الامريكي والفرنسي « الدستور» في ظروف كانت تستدعي اطلاع المثقفين العراقيين على تجارب الأمم والدول المتقدمة، في كتابة الدساتير. لكن باقي الترجمات، كانت تنصب أغلبها في ترجمة الأفكار الماركسية والاشتراكية. المفارقة الذي ذكرها الاستاذ صالح، هي أن النخبة المثقفة التي أخذت على عاتقها معارضة السلطة آنذاك، بدعوى التبعية للخارج، كانت هي نفسها ترى بأن الغرب الامبريالي، هو نفسه من ينبغي أن يكون القدوة في التحديث والحداثة. وبهذا الصدد، تقول الكاتبة فاطمة المحسن في كتابها « تمثلات الحداثة في ثقافة العراق» : في عراق الاربعينات والخمسينات، كانت سياسة الدولة الثقافية، كما الصحافة المستقلة والمعارضة والمثقفون أنفسهم، على اتفاق حول إنجاز مهمة التحديث التي ارتبطت بالغرب ونمط حياته واسلوب تعاطيه مع المعرفة والفن، كما كانت المعارضة العلمانية على اتفاق مع السلطة في مثل هذا النوع من الثقافة، على الرغم من الصراعات التي خاضها المثقفون ضد سياسة التبعية التي كانت تهمة تلاحق السلطة. فالمثقف الذي يرى في السلطة أنها تابعة وخاضعة لأهواء المستعمر الخارجي، لم يستطع أن يحرر نفسه من التبعية، ربما للمستعمر نفسه. فكان أمام المثقف أما التجديد والتحديث أو تبني خطاب المستعمر نفسه الذي يرى في تبعية السلطة له أبرز عائق أمام بناء دولة حديثة.