د. محمدحسين الرفاعي
[I]
لا يوجد أكثر من جلسات وحفلات وعروض الاِحتفاء باللغة العربيَّة هذه الأيام. أينما ننظر نعثر على أولئك الذين يريدون تأكيد تميُّز اللُّغة العربيَّة بواسطة الكشف عن ألغازها، أو عدد الكلمات فيها، أو قواعد اللُّغة فيها، أو الضروب العبقرية من التركيبات اللغوية فيها، أو ...إلخ. وبالتأكيد، في مقارنة صريحة مع اللغات الأخرى، والثقافات الأخرى، والشعر الآخر، والمجتمعات الأخرى. ولكن، لربما كان علينا أن نتوقف عند مستوى التَّساؤل الجذري عن ذاتِ أنفسنا العميقة اِنطلاقاً من لغتنا. بأية معانٍ نحتفي بلغة لا نملك منها إلاَّ أقل القليل؟ وعلى أي نحو نحتفل ببيت كان قد سكن فيه آباؤنا، وأجدادنا الأولون، ولم يصل لنا منه إلاَّ الخراب؟
[II]
في الحقيقة، إنَّ فعاليَّةً مجتمعيَّةً قائمة على الاِحتفاء بذات أنفسنا العميقة، الضاربة في جذر التاريخ المجتمعيّ، كيفما كان، وكيفما اِتُّفِقَ عليه، لا فرق، إنَّما هي تقوم على تصوُّرات سابقة إليها، تلك التي تعيد تحديد علاقتنا بأنفسنا، والعالَم الذي نوجد فيه، ونكون من خلاله؛ هي أي تلك التصوُّرات، على تقدير، الأربعة الآتية:
[III]
من جهة أنَّ اللُّغةَ سابقة إلى الوجود الفردي، ذاك الذي يقوم على الذَّات الفاعلة التي تذهب إلى شروط إمكان موضوعيَّة لكي تكونَ، فإنَّ التَصوُّر السابق الأول يتمثَّل في أننا، بواسطة الاِحتفاء بما لا نملكه، نبحث عن حقل وجود مجتمعيٍّ لا يتمثَّل الحاضر فيه، إلاَّ عَرَضاً. بـ وفي السَّبيل إلى تجاوز الفرديِّ فينا، إلى أن يُصبح [الـ - نحنُ]، وضمنها.
[IV]
تقوم الثقافة المجتمعيَّة، باِعتبارها البِنيَة المجتمعيَّة الأولى بين البِنى المجتمعيَّة الأساسيَّة الثلاث: ثقافة، اِقتصاد، سياسة، على الماضي المجتمعيّ، وكيفِ تأويله. وفي هذا السَّبيل، تُصبِح الهَويَّة في علاقة محكمة بتحديدها من قِبَلِ بِنيَة الثقافة. وهكذا، فإنَّ بِنيَة الثقافة المجتمعيَّة سابقة إلى الهَويَّة، ومحدِّدةٌ لنمط بعينه من الهَويَّة المجتمعيَّة، ضمن اِحتمالات وجودية مختلفة تبدأ بالوحدة، واِنغلاق، وبالتميُّز، والإقصاء، ولا تنتهي بفبركة واِختلاق نزاعات وصراعات مع المختلف، والمتعدد، والمتنوع.
[V]
يحتفي الاِحتفاء إذن بالأصل المجتمعيّ والجذر. إنَّه يحتفي بأنَّ الجذر الذي من خلاله نوجد، والأصل الذي يرتبط حاضرنا به، إنَّما هما يتوفران على إمكان تحديد نمط وجودنا، ونمط بناء العلاقات بيننا والعالمية. وفي هذه الحال، نكون مباشرةً أمام: التحديد النهائي والأكيد والأصيل لنمط بعينه دون الأنماط الأخرى من العلاقة مع العالَم، من جهة، والمجتمع العالَمي، بعامَّةٍ، من جهةٍ أخرى.
[VI]
يتمثَّل التَصوُّر الرَّابع، من جهة الثبات، والوقوف عند حدٍّ بعينه تضعه الهَويَّة من أجل الوجود المجتمعيّ، من جهة، وطبيعة الوجود العالَمي الذي لنا، من جهةٍ أخرى. بَيد أن ما يفصلنا عن العالَم، أي ما يضعنا في تميُّزٍ عن المجتمع العالمي، لا يمكن أن يتوفَّر على أن يربطنا بالعالَم، ومجتمعه؛ إلاَّ إذا هو أتى، أو أوتي به إلى مستوى تأويل جديد يقوم على النقد، والتفكيك، وضرب من ضروب بناء التعالُق مع الماضي، لا يفهمه بوصفه مغلقاً محدَّداً على نحو نهائي.
[VII]
ولكن، ألسنا، والحال هذي، نحن المُحدَّدين دائماً قَبْلِيَّاً، بواسطة تلك الهَويَّة التي تختفي في الاِحتفاء باللغة، وبه، إلاَّ نمطاً من أنماط الاِنغلاق إزاء العالَم؟ ألا يتضمَّنُ هذا المُعطى القَبْليِّ فينا، إمكان أن نكون، بعد أن فقدنا ما نحتفي به، أكثرَ مما كانت عليه الهَويَّة، وأكثر مما تريد هي أن نكونها؟ في الحقيقة،إنَّ الإنسان ينتهي في الهَويَّة وبواسطتها. إنَّ الهَويَّة بدءُ التحديد النهائي للذات الفاعلة. إنَّها تسكينُ الذَّات، وتعطيل الفعل في الذَّات، وبها. إنَّ تساؤلاً بنيوياً جذرياً عن الهَويَّة لا بُدَّ من أنْ يضعنا مباشرةً أمام التَّساؤل عن إمكانات تجاوز عقبات الماضي، لأنْ نكون عالميِّين.
[VIII]
إنَّنا كائنات نزاع على الهَويَّة واِنطلاقاً منها، منذ عصر النهضة العربيَّة. أخذ هذا النزاع أشكالا معرفية- فكرية تجسدت بواسطة إشكالات وإشكاليات مارست اِنحرافاً فكريَّاً صريحاً في تناول الواقع المجتمعيّ، من جهة، وفي علاقة هذا الأخير بالعالمية من جهةٍ أخرى. إنَّها إشكالات وإشكاليات من نوع: إشكاليَّة التُّراث- والحداثة، وإشكاليَّة العالَميَّة- والخُصوصيَّة، وإشكاليَّة علمنا- علمهم، وإشكاليَّة حوار الحضارات- وصراع الحضارات، وإشكاليَّة الهَويَّة العربيَّة- والهَويَّة الإسلامية. وعلى هذا النحو، نقع في جملة مُكَوِّنات وعناصر الهَويَّة، ويختفي فينا، بواسطتها، إمكان أن نكون وفقاً لمصادر الوجود المجتمعيّ التي من شأن الذَّات الفاعلة، في السَّبيل إلى أن نكون ذاتَ أنفسنا العميقة؛ تلك التي نجدُ إمكاناً لها في المستقبل.
[IX]
لربما كان علينا أن نكون، لا بدلاً عن أولئك الذين كانوا في لحظة بعينها، ضمن شروط وظروف بنيوية تاريخية مجتمعيَّة بعينها، بل لربما كان علينا أن نكون بدلاً عن أولئك الذين ماتوا بدلاً عنا في السَّبيل إلى بناء المستقبل، ونفكر بدلاً عنهم، وعن غيابهم، في صراعات الهَويَّة. وفي هذا السياق، يرتفع التَّساؤل: إلى أين يذهب الاِحتفاء بشيء لا نملكه، إلاَّ عَرَضاً، ويريد أن يجعل، أو نريد أن نجعل، كل وجودنا، وإمكاناته، مرتبطاً به؟
يبدو أننا قد فقدنا القدرة على تمييز أن ما نملكه في [اليوميَّة]، وما به نوجد، ليس اللُّغةَ العربيَّة، بل الهَويَّة، ومحاولات، وشعارات الدفاع عنها. وهكذا، فإنَّ الاِحتفاء باللغة، لغتِنا، ولا ثَمَّةَ ما في عصر وحدة العالَميَّة هذا من لغة إلاَّ لغة المفاهيم العالَميَّة، ليس أكثر من اِختفاءِ ماضٍ لا نرتبط به إلاّ على صعيد الهيئة. إنَّ الاِحتفاء باللغة بوصفه اِحتفاءً بأنفسنا العميقة يحدث في قلب الاِحتفاء بالماضي السحيق. ذلك الذي لم نتوفر بعد على إمكانات اِمتلاكه. لأنَّ الهويات ماضيات.