ياسين طه حافظ
هذا كتاب مهم لاستكمال ثقافة أي مثقف، فكرياً وفنياً. وباشلار عَلَمٌ معروفٌ في أوروبا كلّها. ويُسمّى بالمفكّر العالم، وهذه التسمية دقيقة وتدلُّ على مدى معرفته كمفكّر وصاحب رأي في الأدب والفنون. وقد صور "جماليات الصورة" وهو دراسة ذكية ممتازة بقلم غادة الإمام عن دار التنوير. والتمكّن العالي من فهم باشلار تجعل منه واحداً من الكتب الاساسية لثقافة أي منا.
أحاول في هذه المقالة الصغيرة أن ألخص نقاطاً مركزية فيه محرّضاً على قراءته وبذل الجهد في استيعابه وان كان يحتاج الى صبر ودقة في القراءة.
في فصله الاول يناقش باشلار فلسفة برجسون في الديمومة الزمانية او زمان الديمومة، ثمّ يقدّم رأيه وأسباب اعتراضه ورفضه لها، أي لديمومة الزمان بوصفها استمرارية ومن غير تقطع او انقطاع، فهي في رأيه تتكوّن من نغمات مثل القطعة الموسيقية متصلة متلاصقة لا تنفرط عن القطعة الموسيقية التي هي فيها أو
بعض منها.
أزمنه منفصلة
يقول باشلار: ان كانت اللحظة تقطيعاً خاطئاً للزمان فمن الصعب التمييز بين الماضي والمستقبل.
ثم يقول: ان المعرفة جوهرها عمل زماني بحيث يبدو الفكر في سعيه للمعرفة وكأنّه سلسلة من اللحظات المنفصلة بوضوح. وهنا يؤكد باشلار أن الزمان او الأزمنة منفصلة وليست متصلة كما تبدو. ويقول: لا يمكننا الانتقال من جوهر الى آخر بواسطة فكر متصل. ويتساءل : كيف لا نرى ان كل تمايز فكري في المظهر وفي الهيئة او الشكل هو علامة انقطاعات مطلقة ثم يفسّر ذلك: ان الاستمرارية عند برجسون هي معطى
مباشر للوعي.
الا ان هذه الاستمرارية الاليفة انما هي تغلف الانقطاعات. وبالاستمرارية المستمدة من الخبرة الخارجية
ليس إلّا.
وقد تكون خلاصة مناقشته لهذه المسألة قوله: استمرارية الصورة المنتظم "لسيلان" الزمان الذي نقيسه بالساعة لا يمكن ان تخبرنا بأي شيء عن الشباب أو العمر. الزمن الذي يجعلنا شبابا او شيوخاً ليس هو زمان الساعة على الاطلاق. من الواضح ان هناك شيئاً من الاستمرارية ينتمي الى طبيعته فنحن فجأة نصبح واعين بأن شخصاً أصبح عجوزاً وان شخصاً لم
يعد طفلا ..
وهنا يستشهد باشلار، على علو شأنه، بجادمير وقوله: بأن الزمان الذي يتسم بالديمومة، كما عند برجسون هو زمان الساعة، أي الزمان المستمر غير المتقطّع والذي لا يتوقف عن السيلان والجريان. هذا الزمان ينصرف عن زماننا الخاص المستقل بذاته والذي يتمثل في الزمان الذي في ثنايا خبرتنا الخاصة
بالحياة.
و باشلار هنا لا ينكر الديمومة لكنّه يرفض الاستمرارية التي تُفسَّر بها الديمومة ويقول: "يجب ان تمنح اللحظة وجوداً مهماً وحاسماً بجانب الديمومة..."
ميتافيزيقيا لحظية
أهمية هذا الاستنتاج هو أنّه أنقذ اللحظات المجيدة والأزمنة الثورية وأزمنة التحول، كما أزمنة الإبداع والبطولة من الضياع في الزمان العام والذي وصفه بزمان الساعة. لقد ميز الإنسان عن الأبد وعن السرمدي وجعل لكل حياة وفعل زمانهما كما لكل إنسان زمانه
الخاص.
ويصل باشلار الى نتيجة أخرى هي أن الشعر بوصفه "ميتافيزيقيا لحظية" أي أنّه انبثاق للوجود في طبيعته المادية وتجلي الحياة عبر حيويتها في تلك اللحظة الشعرية ومن خلال صورة شعرية لها زمانها الخاص المستقل عبر زمن
الحياة ..
فالشاعر يقوّض الاستمرارية البسيطة للزمان المتصل.
وعمله الشعري حضور آخر وسط الحياة. وهذه، في رأيي، أول جمالية من جماليات الصورة، والتي سنأتي عليها في كلمتنا المقبلة، وبعد أن مهّدنا لاستيعاب المعطيات التي توصل اليها وسترون أنّها إنجاز حقيقي يجمع بين الفكر والفن الشعري
بعلمية مقنعة...