نافذة على التنوير

آراء 2019/01/28
...

عصام عباس أمين
 
بدءاً فإنّ المعنى الحرفي للتنوير هو ضد الظلام، اما المعنى المجازي فهو يدل على الاستنارة العقلية المضادة للفهم المغلق او المتزمت او الظلامي للدين، فالتنوير هو اعتماد التفكير العقلاني بدلا من التفكير الخرافي. والتنوير ظهر اساسا كردِّ فعل على الظلامية الاصولية التي كانت تهيمن على البشرية الاوربية في نهاية القرن السابع عشر.
اليوم ونحن نعيش في القرن الواحد والعشرين نجد أن التنوير أصبح مسألة تاريخية بالنسبة الى المثقف الاوروبي، لكنّه يشكل تحديا خطيرا للمثقف العربي، بسبب التعارض الواضح والكبير بين التنوير كمنظومة فكرية من المفاهيم والقيم وبين الاصولية المتزمتة، حتى اصبحت مسألة حياة او موت. فالتنوير هو العلم في مقابل الخرافة والدوغمة الدينية، وهو غربلة التراث الديني وتمحيصه من خلال النقد التاريخي والفلسفي، وهذه تعني اختبار وفحص كل الافكار، فلا حصانة ولا حدود، وكل شيء مباح وخاضع للمناقشة
 والبحث.
بفضل التنوير نجد اليوم اوروبا تنعم بحالة الصلح بين المسيحية والحضارة الحديثة، ولا خشية من تناول أي قضية للأصولية المسيحية بالشرح والنقد والبحث والتحليل، ففلاسفة التنوير نجحوا في ترسيخ فكرة "الدين العقلاني". فلم تعد الكنيسة تضغط على العقول أو تقمعها. بل نجد العكس تماما، فرجال الدين في فرنسا وبقية البلدان الاوروبية المتقدمة يتخذون الموقف نفسه الذي اتخذه (جان جاك روسو) من مسألة المعجزات، ولم يعد ممكنا معاداة التطور والتقدم والافكار الفلسفية.
 بمعنى ان فلاسفة التنوير اجبروا رجال الدين على تنظيف العقيدة من الشوائب اللاعقلانية، من خلال الشك العقلاني وتمحيص الامور قبل الاعتقاد بها، واستخدام المنهج التجريبي، لذلك أصبح التعايش سلميا بين المؤمنين وغير المؤمنين، بين الكاثوليكيين والبروتستانتيين، بل أصبحنا نرى للفاتيكان مكتبا لمحاورة "غير المؤمنين" بعد ان كان يحرقهم بالنار في العصور السابقة، وهذه من 
نعم التنوير.
واذا كانت اوروبا تنعم اليوم بالحرية فإنّ الفضل في ذلك يعود الى فلاسفة التنوير والمعارك التي خاضوها على مدار سنوات طويلة.
أما العالم العربي او الاسلامي فإنه يعيش تحت تهديد دائم من انفجار المعارك المذهبية او الطائفية، وما المجازر التي ترتكبها القاعدة او داعش او فتح الاسلام او هيئة تحرير الشام من الجماعات المتطرفة إلّا دليل على عمق الأزمة التي يعيشها العالم الاسلامي مع نفسه ومع الحداثة الكونية
 في آن واحد. هذا الاستعراض البسيط والسريع يقود الى استنتاج واحد مهم وخطير، وعليه يتوقف مستقبل الامة، وهو (الحاجة الى تفعيل دور الفكر ودور المثقف والمفكر في البناء لمنظومة قيمية جديدة محورها الانسان واساسها العلم والتجربة). وبعكس ذلك نبقى ندور حول أنفسنا، نأكل بعضنا، في وقت يتقدم فيه العالم الحر، ويتخلى عنا، لنغرق في مشاكلنا التي تتفاقم يوم بعد يوم، وليس غريبا أن نجد أنفسنا في قعر الحضارة وخارج التاريخ اذا لم نتحرك كما تحركت اوروبا في عصر التنوير، فهل نقدر؟!.