د. قيس العزاوي
يبدو ان حركة احتجاجات "الستر الصفراء" باتت تخرج عن مساراتها التي بدأت بها، فقد خرجت بالفعل عن مسارها الفرنسي لتدخل في مسار عالمي شمل الى يومنا هذا دولاً من اربع قارات هي : اوروبا ، آسيا، افريقيا وكندا في اميركا الشمالية. وقد خرجت هذه الحركة الاحتجاجية من مسارها المطلبي الذي كان مقتصراً على الاعتراض على اسعار الديزل الذي ارتفع بنسبة 23 بالمئة، لكي تسلك مساراً جديداً فتحولت الى حركة احتجاج اجتماعية تطرح مطالب طبقية من شأنها أن تشعل تدريجياً شرارات ثورة الفقراء ضد الاثرياء من ناحية. ومن ناحية ثانية فإن اصرارها على مطالبها الاجتماعية بدأ يثير قضية في منتهى الخطورة وهي قضية العمل بكل السبل القانونية والجماهيرية لوقف ما أسموه "التوحش الرأسمالي" في افقار الفقراء .
ولأول مرة في تاريخ الاحتجاجات الاجتماعية التي يحفل بها التاريخ السياسي الفرنسي خرجت حركة "الستر الصفراء" عن مسارها المعتاد، اذ لم تكن باي حال حركة شعبية تقودها شبكة النقابات اليسارية أو اليمينية كما جرت العادة في كل العهود السابقة.
وخرجت ايضا عن مسارها السياسي من كونها ليست حركة احتجاجات تحركها الحياة الحزبية لليمين واليسار والوسط، اذ كانت منذ انطلاقها وما زالت حركة عابرة لقيادات الاحزاب وخارج نطاق هيمنتها أو حتى توجيهاتها. إنها حركة عبرت عن نفسها في اول بيان لها نقله موقعها الالكتروني بأنها" ليست جزءًا من أي منظمة أو حزب سياسي. إن احتجاجاتها شعبية غير حزبية ولا نقابية
وغير سياسية ".
وفوق هذا وذاك خرجت من مسار كونها حركة نخبة من المثقفين المعترضين على سياسات محددة داخلية وخارجية كمثل احتجاجات المثقفين اليساريين الفرنسيين في قضية دارفوس التي قادها اميل زولا في نهاية القرن التاسع عشر. كما انها ليست كمثل احتجاجات المثقفين الفرنسيين ضد حربي الجزائر وفيتنام في منتصف القرن العشرين التي قادها كبار المفكرين اليساريين مثل : جان بول سارتر وسيمون دوبفوار والبير كامو وآخرين.
انها ليست كل ما سبق ومع ذلك نجحت حركة "الستر الصفراء" التي بدأت على شبكة التواصل الاجتماعي وشغلت عدة صفحات على الفيس بوك وموقع الكتروني خاص بالتظاهر الاحتجاجي، وتمكنت من جمع مليون توقيع مطلبي . نجحت في رسم خطتها عبر الانترنت وأقنعت الالاف المؤلفة من الفرنسيين للخروج بتظاهرات احتجاجية في وقت واحد في جميع انحاء فرنسا، ونفذت خطتها بقفل الطرق السريعة والشوارع الرئيسة وإعاقة الوصول الى المطارات ومحطات القطار بواسطة طابور من الشاحنات التي تعيق الوصول أيضاً الى مراكز التسوق والمصانع ، كما تعيق السياحة بعد ان اضطرت السلطات لاغلاق برج ايفل وعدد من المتاحف في ايام التظاهر.. ومما يزيد في خصوصية حركة الستر الصفراء وفرادتها إنها اصبحت تقوم بتظاهرات كل يوم سبت.. وتنال تأييد ثلثي سكان فرنسا، كما أكد ذلك المعهد الفرنسي لاستطلاعات الرأي العام "ايلاب". وقد امتدت الى بلجيكا وهولندا وقد سبقتها حركات احتجاجية في ايطاليا واسبانيا وقدمت لها. وتخشى النخب الحزبية الحاكمة في دول الاتحاد الاوروبي من امتدادها التدريجي الى بقية دول اوروبا. ولكونها باتت ظاهرة عالمية فقد امتدت الى كندا التي شهدت تظاهرات صفراء كما امتدت الى لبنان حيث اطلق المتظاهرون شعارات الثورة، والى اسرائيل التي هتف المتظاهرون فيها "الشعب يريد اسقاط النظام" على غرار ما فعلته الثورة المصرية عام 2011 وامتدت الى تونس حيث تظاهرت حركة "الستر الحمراء" التي "تناهض الفشل والفساد وغلاء المعيشة والبطالة وسوء الإدارة والهيمنة على مفاصل الدولة واستمرار سياسات التفقير الممنهج". وظهرت في الجزائر بوادر حركة للستر الصفراء في مدينة بجاية السياحية. كما ظهرت في العراق وبالتحديد في مدينة البصرة .
ما الذي تعنيه هذه الظاهرة التي بدأت تتحول الى العالمية؟
أولاً : إن الحركة الاحتجاجية بصيغتها الحالية غير معهودة من قبل، فالذين يخرجون للتظاهر ينتمون لكل فئات المجتمع وهم من كل الاعمار(من الطلبة والعمال والموظفين وحتى المتقاعدين) ومن كل الطبقات، انهم عموم الشعب ينتابهم شعور بخيبة الامل من رئيسهم وسياسته الاقتصادية والاجتماعية ولديهم احساس بالظلم الاجتماعي، ويعترضون على ضعف القدرة الشرائية لرواتبهم وغلاء المعيشة، ويرددون " كل شيء ارتفعت قيمته الا الرواتب في تقهقر مستمر".
ثانياً : تطرح هذه الظاهرة الانعكاسات الكارثية للعولمة على مستويات المعيشة في العالم . لكونها عولمة اطلقت حرية حركة رأس المال والبضائع بينما قيدت حركة الايدي العاملة. فكما افقرت شعوب العالم الثالث الامر الذي ضاعف من الهجرة الاقتصادية الى اميركا من المكسيك والى اوروبا عبر المتوسط ..
ثالثاً : لقد تجاوزت الحركة الاحزاب السياسية والنقابات على الرغم من اضطرار العديد من الاحزاب للوقوف على مضض مع المتظاهرين او محاولة اختراق الحركة وتسخيرها، ومما يسهل ذلك هو عدم وجود قيادة لهذه الحركة حتى ان ضعفها في هذه الناحية يكاد يكون نقطة قوتها، فهي جماهيرية بكل زخمها وعفويتها وهو ما يرسخ مناعتها.
رابعاً : تنتاب الخشية الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون عندما يطرح السؤال التالي: ماذا لو تحولت الحركة من مطلبية الى ثورية؟ لقد بدأت غير سياسية، ولكن دخول عناصر من اليسار واليمين المتطرف جعلها تتحول تدريجياً الى حركة سياسية لا تطرح مطالب اجتماعية او اقتصادية فتعترض مثلا على غلاء المعيشة او تعترض على النظام الضريبي فحسب، وانما بدأت تطرح مطالب سياسية ثورية مثل: تغيير برنامج الحكومة والاعتراض على سياسة فرنسا الاوروبية، والتمسك بالسيادية الوطنية الفرنسية، بل انها بدأت تطالب بإقالة الرئيس ماكرون. وعلى الرغم من ان بعض العنف والتخريب قد رافق التظاهرات والاحتجاجات الفرنسية عبر التاريخ ولكن تحول هذه الاحتجاجات الى حركة ثورية تهدف للاطاحة بالنظام دون تقديم البديل سيجعل منها اداة تخريب للاقتصاد وعنف
مضاعف سياسياً .
حكماء فرنسا ينصحون ماكرون بتقديم التنازلات والحد من الظلم الاجتماعي والانفتاح على احتياجات الفرنسيين فهل يفعل ؟