المسرح ابن بيئته

منصة 2021/01/09
...

 د. باسم الاعسم 

 
 
إنَّ البيئة رحم والمسرح طفل يمثل بلا وعي فني فيه وينتمي إليه, وما أنْ تزاح عنه ستارة العتمة يصرخ فتتقاذفه الأيادي ويشتعل التصفيق. ومنذ تلك اللحظات تبدأ تباشير العلاقة الحميميَّة مع الجمهور بعد أنْ يكون الطفل الممثل في حجر الأم بيئة العرض الثانية التي تمهد السبيل الى بيئة المسرح الحياة وهكذا، فالبيئات متنوعة, مثلما هي الأرحام فمنها الولاد ومنها العقيم.
إنَّ تلك الصورة المجازية توحي لذوي الشأن بمقاربة سيميولوجية بهدف التشبيه العقلاني لطبيعة الرمز وعلاقته بالمرجع, إذا ما أدركنا أنَّ المسرح تكوين سيميولوجي بامتياز يضج بالعلامات والمجاز, المولدة للجمال وربما النشاز, بحسب طبيعة المعالجة الإخراجية المتبعة.
وعلى تباين أشكالها, تعدُّ البيئة حاضنة للبناءات الفوقيَّة, الثقافيَّة والفنيَّة والمعرفيَّة, بوصفها منظومة مجتمعيَّة تحتكم الى الظروف الذاتية والموضوعية فتؤثر في سلوكيات الأفراد وتسهم في إنتاج الخطابات الفكريَّة والفلسفيَّة, وربما تنتج العنف والتطرف, لأنَّ الأفكار كالبذور الصالحة إنْ وجدت لها بيئة خصبة نمت, وإنْ كانت البيئة صلبة ماتت.
وما دمنا بصدد العلاقة التبادلية المنتجة بين البيئة والمسرح واتجاهاته نقول: إنَّ أبرز البيئات التي أسهمت في نشأة المسرح, قديماً وحديثاً في حضارات وادي النيل والرافدين والاغريق والصين واليابان, هي: (البيئة الدينية والبيئة الاسطورية) المتمثلتان بسطوة الفكر الاسطوري وهيمنة الالهة والكهنة في المعابد والكنائس والمدارس التبشيرية وسواها.
وإذا كان الإنسان ابن محيطه فالمسرح ابن بيئته, لكنَّ أهداف المسرح بعيدة المدى وذات رؤى مستقبليَّة, لأنه يتخذ من الهموم الإنسانيَّة والوجوديَّة منطلقاً في مقارباته المتنوعة واتجاهاته المختلفة. إنَّ بيئة الحروب قد كانت سبباً رئيساً لنشأة الملاحم والأدبيات بما أفرزته من ويلات كارثية خلخلت الإنسان والحرية وشيوع اللا جدوى, تزامناً مع نشوء بيئة الفلسفة الوجوديَّة, فنشأ من جراء ذلك مسرح العبث واللا معقول ومن ثم المسرح الوجودي والسريالي.
في حين إنَّ بروز بيئة الفكر اليساري المناهض للحرب وظهور الواقعية الاشتراكية, عقب تنامي الفكر النازي قد عجلت تلك البيئة في ظهور مسرح (برتولد برشت) السياسي والتعليمي القائم على نظرية التغريب التي تتقاطع مع نظرية ارسطو وكذلك مسرح (بيتر فايس) و(مايرهولد).
وهكذا, فإنَّ التيارات المسرحية المعاصرة قد نشأت بفعل وجود بيئات مختلفة, تماماً كما هي الحال لدى المذاهب الأدبية القديمة والحديثة, فهي الاخرى قد ولدت نتيجة توفر بيئات فكرية وفلسفية وأدبية.
وعلى صعيد المسرح العربي ثمة اتجاه مسرحي مختلف عن سابقاته تمثل في (المسرح الصحراوي) في إمارة الشارقة كانعكاس واستجابة للبيئة الصحراوية, فقدمت العديد من النصوص والعروض بهذا الصدد, واساس ذلك استثمار البيئة الصحراوية هناك.
وبقدر تعلق الأمر بالمسرح العراقي نقول: إنَّ توفر البيئة الدينيَّة بفعل تواجد القساوسة المسيح والرهبان في شمال العراق, أسهم ذلك في وضع اللبنات الأولى للمسرح العراقي في الموصل, وثمة مسرحيات كتبها كل من (الأب حنا حبش) و(نعوم فتح الله السحار) قد شكلت الأرضية الدرامية لتلك الانطلاقة المسرحية.
وفي بواكير القرن العشرين, بفعل توالي الثورات والانقلابات السياسيَّة, فقد نشطت البيئة السياسية فكتبت العديد من النصوص المسرحية وقدمت العروض المسرحية ذات الحس السياسي والوطني تجسيداً لسطوة البيئة السياسية والفكرية حتى برز عددٌ من المؤلفين منذ منتصف القرن العشرين, ومنهم: يوسف العاني ونور الدين فارس وطه سالم وعادل كاظم فعمقوا بكتاباتهم بيئة المسرح الجاد بمعالجاته الواقعية السياسية النقدية التي ترسخت اكثر في سبعينيات القرن العشرين العصر الذهبي للمسرح والثقافة والادب, لكن سرعان ما انطوت بيئة المسرح السبعيني بفعل المتغيرات السياسية ونشوب الحرب وأعقبها الحصار, فاضحت بيئة المسرح جزءاً من بيئة الحرب, النصوص فيها مشفرة والعروض غازلت بيئة الحرب وانتقدت بعضها, وشحت من جراء ذلك العروض الاكاديمية وانتعشت بيئة العروض المسرحيَّة التجارية التي تثير الضحك وتدغدغ عواطف المتلقين لتحقيق الربح المادي.
وعقب اندحار النظام الدكتاتوري عام 2003 وسقوط سلطة الرقيب ازدهرت فضاءات الحرية الإبداعيَّة, فتنوعت بيئات الخلق والاجتهاد, فتعددت المقاربات الإخراجية وتباينت بحسها التجريبي كما في عروض الرقص الدرامي للمخرجين محمد مؤيد وأنس عبد الصمد, تلك العروض التي تعول على أجساد الممثلين في صناعة الجمال المسرحي, وكذلك عروض الفنان د. جبار جودي التي انعشت بيئة السينوغرافيا كما هي الحال في عرض سجادة حمراء.
وضمن المؤسسات الفنية والأكاديمية انفتحت البيئة المسرحية على اتجاهات الحداثة المسرحية وما بعدها, فقدمت بعض العروض المسرحية بهذا الصدد, وفيها يعول على الاشكال المبهرة من دون الإبحار في المضامين الاجتماعية وسواها.
لقد أتاحت بيئة التجريب المسرحي عديد الفرص أمام بعض المخرجين وفي مقدمتهم المخرج الدكتور ماهر الكتيباني, إذ قدم بعض العروض المسرحية التي تندرج ضمن ما أسماه عروض (اللاتوقع الحركي) التي تستنطق القدرات المخبوءة في أجساد الممثلين لبعث جماليات التشكيل الحركي والبصري عبر الحركات والتكوينات المنتجة وليست الرتيبة, وقد لاقت صدى طيباً من المتلقين والنقاد.
وأفرزت بيئة المتغيرات السياسية والاجتماعية تشكيل جماعة (المقهورين المسرحية) في محافظة ذي قار بقيادة المخرج والناقد الدكتور ياسر البراك.
وقدمت العديد من العروض المسرحية كما أن البيئة الصحية عقب انتشار وباء كورونا قد دفعت المؤلفين الى كتابة نصوص مسرحية تصدت الى جائحة كورونا وكتب المؤلفون منهم سعد هدابي بعض النصوص الدرامية بهذا الصدد ومنها: (الجائحة) و(شرفات) وسواها, وبسببها ايضا فقد ساعدت بيئة الحجر الصحي للناس عامة على التفكير لدى بعض المسرحيين في إيجاد بدائل مؤقتة للمسرح الحي أو الطبيعي, فقدم الفنان المسرحي الدكتور جبار خماط أنموذجاً للمسرح اسماه “مسرح السينما” وهو نتاج البيئة الصحيَّة الحرجة التي جعلت المسرح أبوابه موصدة والناس عنه عازفون.
من هنا ندرك أن البيئات على تنوعها تمثل الباعث الرئيس في إيجاد الاتجاهات المسرحية المختلفة في العالم أجمع.