د.محمد فلحي
توقعت وزارة التخطيط العراقية تنظيم تعداد عام للسكان في عام 2020، وذلك بعد سنوات من التعطيل والتأجيل رغم الأهمية القصوى لهذا التعداد في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فلا تخطيط دون أرقام، ولا أرقام دون تعداد، ولا حياة دون تخطيط في المجتمعات
المعاصرة.
شهد العراق ثمانية تعدادات للسكان كان أولها في عام 1927 وبلغ سكان العراق حينذاك نحو ثلاثة ملايين، وآخرها عام 1997 وقدر عدد العراقيين في حينها بتسعة عشر مليونا، في حين اعلنت وزارة التخطيط وفق تقديرات الجهاز المركز للإحصاء أن عدد العراقيين حاليا يزيد عن ثمانية وثلاثين مليونا بمعدل نمو سكاني يقارب المليون نسمة سنويا، في ظل غياب المعلومات الدقيقة والخطط المستقبلية لاستيعاب الأعداد المتزايدة من السكان وضرورة توفير متطلبات الحياة الكريمة للأجيال الحالية والمقبلة.
التأجيل المتكرر للتعداد العام للسكان منذ اثنين وعشرين عاما، قد يبدو مسوغا بأسباب فنية مرتبطة بالظروف السياسية والأمنية، التي شهدتها البلاد خلال تلك المدة، لكن التعداد يظل حاجة ملحة ويتطلب إرادة وطنية وقرار سياسي، فالتعداد يمثل مفتاح الحل لكثير من المشكلات المعقدة التي يواجهها المجتمع العراقي، في عصر المعلومات والقرارات التي تصنع وفق معطيات الأرقام والاحصائيات بعيداً عن العشوائية والارتجال والتخبط وهدر الثروات، وفي مقدمتها الثروة البشرية التي لا تقدر بثمن.
يمكن أن نشير إلى أهم الضرورات الملحة لإجراء التعداد، في المجالات الآتية:
1 - العملية الديمقراطية وتشكيل النظام السياسي لا بدَّ أن يتم عبر الانتخابات النيابية والمحلية، ولا يمكن للانتخابات أن تكون شفافة وعادلة دون وجود الاحصائيات السكانية الدقيقة وقوائم الناخبين الحقيقية، وكل انتخابات دون تعداد سكاني مطعون في مصداقيتها ومشكوك في
شرعيتها.
2 - التنمية الاقتصادية تجري عادة وفق الميزانيات المالية والإحصائيات، وكل قطاعات الصناعة والزراعة والتجارة تتطلب وجود الارقام الموثقة، ولعل أبرز مثال على الحاجة الى التعداد والأسماء هو تنظيم البطاقة التموينية وإدارتها وتحديثها سنوياً.
3 - التنمية البشرية والاجتماعية تخضع لمعطيات الأرقام وبخاصة في ما يتعلق بالتربية والتعليم والسكن والصحة والطرق والخدمات وتنظيم
الأسرة.
4 - هناك مشكلات ديموغرافية لا تعالج إلا من خلال تعداد السكان ومن أبرزها مشكلة المهجرين والمناطق المختلطة المتنازع عليها.
إن ظروف العراق السابقة والحالية فرضت على الملايين من المواطنين العراقيين اللجوء إلى الهجرة والاغتراب، في جميع بلدان العالم، وهي ظاهرة فريدة، تتطلب جهوداً مخلصة ورؤية حكيمة من أجل ربط هؤلاء المواطنين بوطنهم، ومن ثم العمل على إعادتهم مستقبلاً، وفق معالجات إنسانية وأساليب قانونية، تحفظ لكل منهم حياته وكرامته ومستقبله، وحقه في العودة إلى الوطن، وبخاصة أن طول فترة الاغتراب أدت إلى تغييرات جوهرية في حياة الكثيرين مثل الزواج والطلاق والولادات والوفيات والشهادات الدراسية والعمل وغيرها من الشؤون الشخصية
والإنسانية.
إن التعامل مع هذا النوع من القضايا الإنسانية يجب أن ينطلق من حسن النية، في العمل، وحسن الظن في التعامل بين الحكومة والمواطن، وفي هذا الصدد يجب أن لا نكرر أخطاء النظام الصدامي في التعامل مع كل مهاجر عراقي باعتباره متمرداً ومطارداً ومحروماً من أبسط الحقوق، إن لم يكن محكوماً عليه بالموت، حتى وهو يحاول أن يعيش غريباً خارج وطنه، أما المهاجرون والمهجرون فقد أجبرتهم الظروف القاهرة على العيش خارج الوطن (مؤقتاً)، ومن المفترض أن الحكومة العراقية الحالية، التي سبق أن عانى أغلب أعضائها من قسوة الظلم والتهجير والمطاردة، في ظل النظام السابق، حريصة على معرفة مصير أي مواطن عراقي، موجود في أي مكان في العالم، سواء بصفة مسافر مؤقت أم مهاجر مقيم في بلد أجنبي أو عربي لأي سبب كان، كما هو شأن الدول المتحضرة التي تحرص على حياة مواطنيها وتوفر لهم ظروف الانتقال والعيش الكريم، حيثما كانوا، حتى يعودون إلى وطنهم، ولا شك أن أمام لجنة التعداد الكثير من الآراء والمقترحات العملية لمعالجة مشكلة الشتات العراقي في دول العالم، وينبغي عدم تجاهل أي مواطن عراقي، وان تضمن عملية التعداد للجميع، في داخل العراق وخارجه، حق تثبيت معلوماتهم الشخصية الكاملة، حصل الكثير من المهاجرين العراقيين، خلال السنوات الماضية، على جنسيات دول عربية أو أجنبية، مع احتفاظهم بجنسيتهم الأصلية العراقية، أو بعد التخلي عنها، لظروف معروفة، وفي هذه الحالة ينبغي النظر في كيفية تحديد وضعهم وموقفهم وإمكانية شمولهم بعملية التعداد، وتلبية رغبتهم إذا أرادوا التخلي مستقبلاً عن الجنسية الأجنبية والعودة طوعياً إلى وطنهم العراق، وضمان حقهم الكامل في
المواطنة.
وأخيراً، يتوجب على وزارة المهجرين والمهاجرين ووزارة التخطيط فتح قنوات التواصل والاتصال بصورة دائمة، مع العراقيين المقيمين في خارج الوطن، وتثبيت المعلومات الشخصية الكاملة عنهم، ومتابعة شؤونهم، والاستفادة من فرصة التعداد في الحصول على إحصاءات وبيانات دقيقة عن أعداد المهجرين وأماكن تواجدهم وظروفهم الإنسانية والمعيشية وغيرها، وعدم الاعتماد على الأرقام والتقديرات العشوائية، وتسهيل سبل عودتهم، متى ما يشاؤون، إلى وطنهم
العزيز.