في ثكنات القلوب

آراء 2019/01/30
...

د. كريم شغيدل
 

قبل يومين كنت في مشوار في منطقة (علي الصالح) ويفترض أن أتوجه بعد ذلك إلى منطقة الكرادة- داخل، فكرت أن أعود من حيث جئت عن طريق الجسر الموصل للأعظمية، لكن وأنا على الجسر خطر ببالي أن أتجه يميناً نحو مطار المثنى، ومنه أعبر صوب الوزيرية أو أستمر لأعبر من جسر السنك أو الجمهورية، لم يخطر ببالي أن الطريق سالكة من ناحية وزارة الخارجية، فواصلت طريقي عبر المنطقة الخضراء نحو الجسر المعلق، وما هي إلا دقائق حتى وجدت نفسي في الكرادة- داخل، كان الطريق سالكاً على طول المسافة التي قطعتها، لا سيطرات توقفك ولا اختناقات مرورية، شعرت فعلاً أنا في بغداد التي ما نزال نحلم أن تتحول إلى أجمل عاصمة، الهواء برغم خفقة البرد كان عليلاً، والشوارع نظيفة، والساحات والأرصفة والجزرات الوسطية ظليلة بما أزهر من أشجار الورد وما ارتفع من نخيل، ونشرات الإضاءة أضفت دفئاً وحميمية على الشوارع، لكم افتقدنا تلك الشوارع!! ولكم تحسرنا على عبور هذه المسافة بهذا اليسر!! دخلت الكرادة مزهواً ولم أعر اهتماماً ببطء السير بسبب كثرة العربات، لا سيما نحن في أول المساء، الوقت الذهبي لتوافد رواد الكرادة من متبضعين وزبائن مقاهٍ ومطاعم ومتنزهين، صورة مفتقدة من صور الحياة التي تلبدت لسنوات، اختنقت خلالها بغدادنا بالحواجز الكونكريتية التي تشبه الكوابيس الثقيلة وهي جاثمة على صدر المدينة.
مثلما ننتقد ونؤشر لمواطن الخلل، علينا بالمقابل أن نحتفي بالصور الإيجابية، وليس بالضرورة أن يكون ذلك مدحاً لجهة أو مسؤول، إنما هو ارتياح شخصي أعبر عنه لأشعر الجهات المعنية بمدى انعكاس بعض اللمسات والإجراءات الإيجابية على نفسية المواطن، الأمر ليس مجرد رفع حواجز من منطقة أغلقت منذ (16 عاماً) تقريباً، والمنطقة الخضراء ليست متحفاً مغلقاً لمخلوقات من كوكب آخر وتم فتح أبوابه للجمهور، فللأمر جانب رمزي لإزالة الحواجز النفسية والطبقية بين رجالات الدولة والمجتمع، كما إنه ينطوي على رمزية أخرى هي إشعار المواطن بالأمن بصورة مادية ملموسة وليست بالخطب والشعارات والوعود، ويمكن أن نعد الأمر في سياق مقالاتنا السابقة بشأن عراق ما بعد داعش، هذه خطوة مهمة وإن جاءت متأخرة، ننتظر ونطمح للمزيد مع اختفاء مظاهر التسلح تدريجياً عن الشارع العراقي، لقد استردت قواتنا المسلحة الباسلة والحشد الشعبي المقدس ومختلف صنوف قوى الأمن الداخلي كرامة الأرض العراقية التي أرادت عصابة الضلالة والجريمة أن تندسها، ونتشرف بألوان قيافاتهم وبريق جباههم كما نبقى مدينين لدماء الشهداء الأبرار ولأسرهم الكريمة ما حيينا، لكن الحياة التي نسعى لرسم صورتها هي لأبنائنا لأطفال العراق الذين نحرص أن يعيشوا بأفضل منا، نريدهم يرسمون مستقبلهم بلا حروب، بلا مجاعات، بلا مخاوف، بلا عنف، لندعهم يفكرون بالورود والزهور والحب والرفاهية وتكنولوجيا المعلومات والفضاء والمخترعات وتحفيز العقل بدل السلاح والسيطرات والتهديدات، ولحماة الوطن مواقعهم في ثكنات القلوب.