يقول بول ريكور: “إنَّ الحياة تعاش بقدر ما تروى”، هكذا الحياة بالنسبة للربيعي، فالزمن فيها ليس خاليا؛ فهذه الذات دخلت حيز المراحل المتفرقة والمختلفة، نتيجة لمحطات الحياة المتعددة والمتباينة التي أنتجت العديد من الآراء والمواقف، فشكلت خزينا معرفيا، وذاكرة خصبة في معالجة دقيقة لمتناقضات عالم ما زال يباغتنا كل يوم بمفاجآته الكبيرة.
لننطلق من سؤال مؤداه: ما الذي يجعل من مرويات الربيعي مقروءةً بشكل كبير لدى مختلف شرائح القراء بتعدد مستوياتهم ودرجات وعيهم المتفاوتة؟، ما هو المميز في هذه الكتابات حتى يعبر كاتبها عن
بـ (شاغل الناس) كما يحلو للدكتور نجم عبد الله كاظم أن يطلق عليه؟،
نقول: إنّ الكتابة عند الربيعي تمثِّلُ متعة الهم، ومعالجة الضمير، والاستغناء عن الذاتية، والتخلص من عبء الذاكرة، وغربلة التاريخ، ورؤية العالم بعين الممزق والمضطهد، وهو ما جسدته روايتاه (الوشم)، و(نحيب الرافدين)، إذ مثلت الأولى انطلاقة الكاتب الحقيقية، ونقطة اللقاء المرتقبة بين الربيعي وما يخبئ له المستقبل من نجومية تجاوزت أسوار مدينته، وحواجز وطنه؛ لتطلقه اسما لامعا طالما احتفي به عربيا، واستشهد بكتاباته عالميا، ففي (الوشم) نرى بعضا من مؤلفها، فما كريم الناصري سوى شاهد عيان لمرحلة كانت من أصعب المراحل وأبرزها حضورا في ذاكرة جيل بأكمله، تداخلت فيها محنة المضايقات والملاحقات المستمرة التي واجهها البطل، نظرا لانتمائه إلى فصيل سياسي معارض للسلطة، ليخرج كائنا آخر محملا بتصورات جديدة، نزع عنه رداء الأهازيج والتصفيق المتواصل لنجومية عهد لم يستمر، فواكب من خلالها مرحلة الستينات كثيرة الاضطراب، إذ برزت مسألة الصراعات الأيديولوجية بشدة بسبب التقلبات السياسية، وهذا ما انعكس على الحياة الاجتماعية، والثقافية كذلك، وقد تجسدت هذه الرؤية من خلال اشتغال نفسي مميز ودقيق على الروح الانهزامية التي صاحبت بطل الرواية.
ولا نبالغ إذا ما وصفنا (الوشم) على أنها من أثرى المنجزات الروائية في محافظة ذي قار والعراق عموما؛ لما تمتعت بهِ من بنية روائية قائمة على تعدد الأدوار السردية وتداخل الأصوات فيما بينها، وتوافر تقنيات عدة منها (الميتا سرد) عبر تقنية الرسائل بين كريم الناصري وصديقه حسون السلمان، كل هذا جعل من (الوشم) علامة فارقة، ومحطة مميزة بالفعل، ولعل نظرة سريعة من قبل القارئ والمتلقي على كم الدراسات العديدة التي أجريت عن هذه الرواية، هذا الأمر كفيل بتأكيد ما ذهبنا إليه من رأي.
أما رواية (نحيب الرافدين) الصادرة في عام 2011، عن دار نقوش عربية في تونس، وتقع في (692) صفحة، فهي مدونة كبيرة، يتداخل فيها الواقعي اليومي بالمتخيل السردي، تتحدث عن فترة الثمانينات من القرن الماضي، وهي المرحلة التي شهدت دخول العراق في حرب استنزاف طويلة أنهكت البلد، وتعد وثيقة عالية الدقة والموضوعية عن حياة الكاتب في تلك السنوات، إذ تمثل هذه الرواية ما يشبه (السيرة الذاتية) للمؤلف عن أيامه الأخيرة في العراق قبل مغادرته له، فالربيعي في روايته هذه، وكما يقول الناقد محمد صابر عبيد: “يذهب بعيدا في تمتين أواصر التداخل والتواصل بين السير ذاتي (الواقعي) المهيمن والروائي المتخيل، على النحو الذي يمكن وصفها فيه بأنها أفضل أنموذج يحقق شروط “الرواية السير ذاتية” على الأصعدة كافة”.
والكاتب إذ يتناول سنوات الحرب في روايته هذه، فإنه يتحدث معها عن الضغوطات التي واجهها، والممارسات القمعية للسلطة الحاكمة آنذاك على المجتمع. فاضحا بذلك أساليب القمع والترهيب والضغط النفسي التي كانت تصدر عن سلوكيات ذلك النظام القاهر. مستخدما بذلك صيغة الراوي العليم، ليكشف عن تلك المرحلة العصيبة التي يواجهها بطل الرواية غسان العامري والمجتمع بصورة عامة، هنا نؤشر بعض الملاحظات التي تواجه القارئ لهذه المدونة السردية، منها:
أولا: إنَّ الربيعي وكما عودنا في أغلب رواياته لم يغادر منحى (الواقعية السحرية) الذي يشتغل في إطاره، فهو يستغلُّ اليومي والمعاش من خلال تجربة حياتية تعيشها الذات، يعتمد عليها الكاتب، وتقوم على شدة الملاحظة، وعدم التردد في تدوين كل شاردة وواردة واجهته في تجوالاته العديدة، ومحاولة التوظيف المميز لهذا الواقعي داخل المتن الروائي، فالكاتب يتمتع بقدرة هائلة على مزج المرجعي الثابت بالمتخيل المفترض، لذلك يقترب نص (نحيب الرافدين) من الواقع كثيرا، حتى يتوازى معه، وكأننا لا نشعر بأي حواجز بينهما، ولكن في الوقت نفسه فإن التطرق لهذا الأمر لا يكون سوى بصفة ساحرة، وقص مميز يبعد القارئ عن ملل التقريرية، ويجعله بحالة من الشد والجذب نحو
الرواية.
ثانيا: ما زال الكاتب شغوفا بـ (سيرة المدن والأماكن) التي يمرُّ بها ويتوقف عندها، فهذه الأماكن بأسمائها الراسخة ومواقفها التي مر الكاتب من خلالها بظروف متباينة ما زالت تشغل الجزء الأكبر من تفكيره، وتنهض بالقسم الأعظم من نصوصه، فحين يتنقل في مسارات روايته (نحيب الرافدين)، على سبيل المثال، بين (بغداد وبيروت والناصرية)، فهو يؤطرها بما تحمل ذاكرته لتلك المدن، فحينما تستولي بغداد على الحصة الكبرى في هذه الرواية، بما تمثله من واقع مأزوم يعيشه البطل (غسان العامري)؛ بسبب ظروف الحرب ومعاناته مع القمع السلطوي الذي سلبه أبسط حقوقه.
ثالثا: كانت وما زالت المرأة منفذا للتخلص من سوداوية المحيط، ومعادلا موضوعيا لكل ما يتصل بالذات من مشاعر وأحاسيس تتناغم والكون حينا، وتضطرب أحيانا كثيرة، هكذا صوّرت سرديات الربيعي المرأة بتناقضات عديدة، ففي حين تكون صورة عن الحياة بل الحياة بأكملها، وحلم ما زال يطارده البطل غسان العامري، كما جسدته حنان عواد، فقد كانت في مواضع أخرى قرين الهزيمة ونقطة اللا عودة في مواضع أخرى مثل ما جسدته زوجة غسان الأولى التي تركها في
بغداد.
نعود للإجابة عن سؤالنا الأول الذي يتعلق بالمقبولية الواسعة لكتابات الربيعي: إن الكتابة وفق عنوان الواقعية السحرية، وما تتخللها من التماعات مبهرة تمتد لتحاكي مستويات متعددة من المحيط الاجتماعي، والثقافي بصورة خاصة، والبراعة التي تتمتع بها نصوص الربيعي المكثفة، والمكتنزة فكريا، والمتفجرة جماليا تستفز مكنونات المتلقي، لتحظى بمقدار من الأهمية لديه، يتعايش معها كأنها جزء من محكياته، فالمبدأ الإنساني المتجاوز لحدود الزمكان، والذي يستعين به الربيعي دائما، هو ما كان يقربه دائما من متلقيه في أي بقعة وزمن
كان.