زغرودة الشحّاذة

آراء 2019/02/01
...

نصير فليح
شحّاذة تزغرد في الطريق، هذا ما رأيته قبل ايام وانا اسير في احد الشوارع. كانت تُقبل فرحة على شحّاذة اخرى وعلامات البهجة تفيض على وجهها حتى انها أطلقت زغرودة عالية. عرفتُ بعدها ان احد اصحاب السيارات المارة اعطاها "ورقة" مئة دولار. هذا الموقف، وهذه الزغرودة العالية، تصلح مفتاحا للكثير من الحقائق عن بلادنا ماضيا وحاضرا.
أعرف ان هناك زوايا نظر مختلفة للموضوع، مثلا ان تكون هذه الشحّاذة ليست في حاجة للمال وانما اتخذت الأمر مهنة، او أن يُنظر لصاحب السيارة كفاعل خير كريم النفس، أو ينظر له كواحد ممن اثروا على حساب اخرين، حتى فاض شيء من هذا الثراء الفاحش على هيئة هذه "الورقة" العابرة.
لهذه البلاد تأريخ طويل في الغنى، مثلما لها تأريخ طويل في الاضطراب 
والفاقة. 
منذ عصور قديمة، عندما كانت تسمى "ارض السواد"، اي أرض الخضرة والزرع، والغزوات التي لم تنقطع عنها من فجر التأريخ. كل ذلك قبل اكتشاف "الذهب الاسود" بكثير، وقبل ان تتحدد حدودها قبل قرن من الزمان بالخطوط التي نعرفها اليوم.
"للسواد" نفسه، معنيان ايضا، سواء جاء في "ارض السواد" او "الذهب الاسود"، معنى للخير والثراء من جهة، ومعنى للحزن والحداد من جهة اخرى. وفعلا هي كذلك، كانت وما تزال تحمل هذين الوجهين معا، وزغرودة هذه الشحّاذة تحمل الى حد بعيد المفارقة نفسها. فالمألوف ان نرى شحّاذاً او شحّاذة تتوسل او تبكي او تدعو، ولكن ان تفيض بها لحظة فرح الى حد الزغردة، فمفارقة اخرى، شبيهة كثيرا بمفارقة السواد، سواء أكان
 زرعا ام نفطا.
ظل الغزاة يطمعون بخير القرى، وظل الحكام المستبدون، في اللحظات التي يتحول مزاجهم فيها الى شيء من السرور، يرمون الدراهم والدنانير، وقد يأمرون "باطعام الجوعان" و"إكساء العريان" واقامة الافراح التي تفيضبها الزغاريد، لبرهة لا غير، قبل ان تعود الامور الى حالها.
جاءت الدولة العراقية "الحديثة"، وجاءت معها صراعات جديدة، سواء بين ابنائها المنشقين على انفسهم، او الاخرين،فكثيرا ما نظروا الى ما تحت هذه الارض من خير، ونادرا ما تطلعوا الى ما فوقها من بشر. ومرت في العقود الاربعة الماضية بحروب واستبداد وحصارات، حتى كأنه لم تبق مفردة واحدة في قواميس الشر والظلم لم يتم اخراجها الى الوجود.
لا يزال المشهد، في ما يخص خير هذه الارض وخير ابنائها، يشبه الماضي الى حد بعيد. والى ان يجيء يوم ننتهي فيه من قصة الفساد والمحاصصة، وترتدي الديمقراطية فعلا تاجها الذي لا جمال لها من دونه، اي تاج العدالة الاجتماعية، فان هذه المفارقة ستبقى، مفارقة السود بمعنييه:سواء تجسدت في صيحات الحروب، او في زغاريد الشحاذات...وهل ثمة فرق كبير بين الصوتين؟