كيف غيّر خيال إيفان تورجنيف الحياة؟
منصة
2021/01/31
+A
-A
دانيال معين الدين
ترجمة: جمال جمعة
أبي الروحي الأفغاني، وهو رجل عسكري خشن، كان في وقت ما في الثلاثينيات من القرن الماضي صاحب الرقم القياسي في سرعة الدراجات الناريَّة في عموم الهند، تحدث عن (مذكرات صياد) كواحدٍ من كتابين أو ثلاثة كتب شكلت وعيه واستمرت تسهم في تشكيله. أتذكر نسخته منها الملقاة على منضدة بجانب سريره، مغلفة بالجلد، بحجم الجيب، مطبوعة على ورق شفاف.لقد كان يهتم بالخيول والكلاب أكثر من الكتب، ولم يكن من الممكن اعتباره أديباً بأي حال من الأحوال، ومع ذلك فقد وجد مكانًا للراحة في قصص إيفان تورجنيف، وهي ملاذ رائع من حياة القيظ والحركة. إن «المذكرات» هي من ذلك النوع من الكتب الذي يلقى استحسانا على نطاق واسع، والذي يضرب بعمق، ويمكن أن يفيد على الدوام طوال حياة كاملة.
القبيلة الذهبيَّة
رست «المذكرات» في مرحلة حرجة من مراحل تطور القصة القصيرة. كان من حسن حظ تورجنيف أنه ولد وترعرع في المكان الذي وصل فيه هذا الشكل الشعري، القصة القصيرة، إلى أعلى درجات مجده (حتى الآن)، روسيا في منتصف القرن التاسع عشر وأواخره. تشيخوف هو تشيخوف، والمقارنات بغيضة عندما يكون الحديث عن أدباء من هذا المعيار ومتقاربين للغاية. ومع ذلك، إذا وجد تشيخوف إجلالاً منقطع النظير من قبل أي شخص، فبالتأكيد أنَّ (مذكرات صياد) يمكن أنْ تغوينا بعمقٍ في وصفها للإنسان والحيوان وأرض الله الطيبة.
تلقت أسرة تورجنيف عقارات من القياصرة الذين خدموهم منذ قدومهم من القبيلة الذهبيَّة (دولة مغول القفجاق)* في العام 1440 للانضمام إلى بلاط الأمير المعظم فاسيلي إيفانوفيتش الثالث. تتألف سباسكوي، وهو اسم ضيعة تورجنيف الرئيسة، حيث تدور أحداث هذه القصص، من 50 ألف فدان من الأرض الكحلاء الطيبة. امتلك آل تورجنيف هذه الأرض منذ القرن السابع عشر، وقد وهبت لهم كمكافأة على الخدمة العسكريَّة. خمسون ألف فدان ليست مجرد مزرعة، إنها ولاية. كانت هناك ولايات أميريَّة هنديَّة (وإمارات أخرى عبر التاريخ) أصغر من ذلك بكثير.
التاريخ الروسي (تاريخ تلك الأراضي) تم تصويره بعنف حتى يومنا هذا. إنَّ قسوة الإدارة تجاه العمال الذين أرسلوا مع ممسحة وسطل لتنظيف الهيكل المشع لمفاعل تشرنوبيل النووي لها جذورٌ في عنف حكام روسيا الأوائل. بطرس الأكبر كان بمقدوره تحطيم عملة ذهبيَّة بقبضته الضخمة، لكنْ كل هؤلاء الحكام المجانين أو العقلاء يحطمون الرجال من أجل التسلية لا غير.
والدة تورجنيف
السيدة المستبدة في ملكوتها، والدة تورجنيف، فارفارا بتروفنا، حكمت سباسكوي بنزوة وعنف استثنائيين حتى بالنسبة لطبقة النبلاء المفرطة في الاستبداد في عصرها. لقد طبعت أوراقها الخاصة، ونسجت القماش، وزرعت كل طعامها، وقطعت الأخشاب، ونشرت بالمنشار، وصنعت الشموع، وقامت بكل أنواع الأعمال. لو أنَّ روسيا لم تعد في الوجود وطفت سباسكوي فوق بحر أزرق، لافتقدت فقط الملابس التي طلبتها من باريس.
ذات مرة ضربت جدة تورجنيف خادماً صغيرًا حتى الموت وأخفت الجثة في غمرة ارتباكها تحت كومة من الوسائد. كما طلبت والدته أنْ يتم إرسال الرجال إلى سيبيريا أو للخدمة في الجيش، وهو نفي مدى الحياة، وساروا في موكب تحت نافذة غرفة المعيشة الخاصة بها ليشكروها على صبرها معهم قبل أنْ يغادروا. عندما كان شابًا، لاحظ تورجنيف أنَّ فتاة صغيرة تتعرض لسوء المعاملة في فناء منزل والدته في بطرسبورغ وأدرك منذ البداية أنَّ هذه كانت ابنته غير الشرعيَّة من إحدى قيان سباسكوي.
كانت والدته تعلم بنسب الفتاة وربطتها بالتأكيد بالحرمان كنوعٍ آخر من التعذيب الذي يمكن أنْ تلحقه بهذا الابن الذي تحبه حد العبادة ومع ذلك يجب أنْ تؤذيه، لأنها هي نفسها تعرضت لأذى شديد في الطفولة، ونبذتها أمها، وانتهكت جنسياً من قبل زوج والدتها. (أخذ تورجنيف في ما بعد تلك البنت إلى باريس وعلّمها وسدد لها مهرًا كبيرًا، وأعاد تسميتها إلى «باولينيتا» على اسم حبيبة حياته، بولين فياردو، إحدى أفضل الأصوات الغنائيَّة الأوروبيَّة في زمنها، وهذه قصة أخرى).
هذه الضيعة، والأوقات الصعبة التي عرّضته إليها والدته هناك، كانت هي المدارس التي خرج منها هذا الكتاب. لو كانت فارفارا بتروفنا امرأة أفضل، لما امتلك تورجنيف معرفة لكتابة (مذكرات صياد). هذه القصص مستوحاة من استبداد والدته بقدر ما هي مستوحاة من الاستبداد الأكبر للدولة الروسية. تزامنت ثورته الشخصيَّة مع ثورة سياسيَّة وطنية أكبر. خلال طفولته ورجولته في ما بعد، سعى تورجنيف إلى رفقة الأقنان في مآوي الكلاب ومطابخ سباسكوي لأنه عثر على الحنان والرحمة بين ظهرانيهم. (مذكرات صياد) هي ثمرة لتلك اللقاءات، وتكمن قوة تلك القصص في تصويرها لهؤلاء الرجال والنسوة.
تضم «المذكرات» أول أعماله الناجحة بالفعل. عندما أصدر الطبعة الأولى عام 1852، في سن الرابعة والثلاثين، مع معظم القصص القيمة المضمّنة في المجلد الحالي، كان قد نشر بضعة نصوص متواضعة، لا شيء يوحي فيها بالتألق القادم. تتمتع «المذكرات» بجودة العمل المصنوع لذاته، من أجل الحب، بعفوية وبلا قيود. لم يكلف نفسه عناء نسج الحبكة كثيرًا، فقد رسم بورتريهات هؤلاء الرجال والنساء من الضيعة، وتبنّى عرض القصص التي سمعها أو رآها.
الحياة ليس لها حبكة
السمة التي تميز القصص المأخوذة من الحياة عن الحياة نفسها هي أن الحياة ليس لها حبكة، ولا حبكة ذات مغزى. في معظم الحالات، كما توصّلنا إلى فهم شكل القصة القصيرة، يتم فرض الحبكة على التفاعلات البشرية من قبل المؤلف. إحدى المفاتن العظيمة لهذه القصص هي كونها غير مخططٍ لها إلى حدٍ بعيد، وبعض منها متماسك فقط عن طريق أداة التأطير للراوي الذي يخرج للصيد ويصادف رجلاً أو امرأة أو موقفًا ما. أكثر من الآخرين، يمكن لتورجنيف أنْ يقول بصوته الحَيي العفوي: «لقد استخرجتها من فم الهواء».
خلافاً للعادة، بالنسبة لعمل أدبي (ولأي عمل فني)، فقد لعبت «المذكرات» دورًا سياسيًا مهمًا في تاريخ روسيا. في أواسط القرن التاسع عشر، أضحت الحاجة إلى تحرير الأقنان، الذين كانوا في الواقع عبيدًا، تضغط على طبقة النبلاء الغربيين بشكلٍ متزايد. ضرورة تحريرهم، ومن ثم وسائل وحدود ذلك التحرّر حيّرت النبلاء، وعلى نحو أكثر أهمية، القيصر: الإسكندر الثاني.
وجدت هذه الفئة صعوبة في التصالح مع فقدان عائداتهم وسلطاتهم الناجمة عن هذا العتق، جزئيًا لأنهم يعرفون القليل جدًا عن أقنانهم، ولم يولوا اهتمامًا كبيرًا بهم قط. كانوا يأمرونهم بالطاعة من خلال التهديد بالنفي أو الكرباج، وفيما عدا ذلك فهم يمتعون أنفسهم بفرق الأقنان الموسيقية في أراضيهم وبمآثر القمار المتهورة، ويتحدثون بالفرنسية فيما بينهم. إذا فكروا في الأمر، فإنهم سيعتبرونها وقاحة من أقنانهم أن يعيشوا حياتهم خاصة.
فرضت قصص تورجنيف إنسانيَّة هؤلاء الرجال والنساء على مالكيهم، وأظهرتها بكل تعقيداتها. كانت القصص بمثابة كشف لقرائها. يعرف أيّ إنسان قتَلَ دجاجةً يوماً ما أنَّ من الأفضل عدم النظر في عينيها. تورجنيف أجبر أقرانه الملاّكين على القيام بذلك، النظر في عيون الأقنان. أقرّ الإسكندر الثاني بالدور الذي لعبته هذه القصص في توجيهه لإصدار «مرسوم التحرير» الذي حرر الأقنان في عام 1861.
حتى اليوم، وفي ظل ظروفنا المختلفة، يمكننا الاستفادة من تلك الصحوة القسريَّة. في زمن تورجنيف، احتدم الجدال (الذي أدى مباشرة إلى الثورة الروسيَّة الرهيبة) بين أولئك الذين دافعوا عن التحول إلى الغرب، وأولئك الحالمين بمؤسسة سلافيَّة جديدة مختلفة عن كل ما نشأ في أوروبا.
قد يبدو أنَّ هذه المعارك، التي استمرت لفترة طويلة، غير ذات صلة بالموضوع اليوم. كان الجدال حول الاتجاه الصحيح لتطور روسيا، بالرغم من أنه اشتمل على الصراع الطبقي بين ملاّكي الأراضي والأقنان، صراعًا ثقافيًا في جوهره، روسيانيّة شرقية بشكل أساسي منجذبة باتجاه العقلانية الأوروبية. يشابه هذا في كثير من النواحي جدالنا الحالي حول التداخل بين شطري الكرة الأرضية، الشمالي والجنوبي. كلاهما أسئلة حول كيفية تزاوج الثقافتين.
أدعو الله ألاّ تلاقي البشريَّة هذا النوع من عدم المساواة مرة أخرى أبدًا، ولكنني أشك في أنَّ الحماقة البشرية قادرة على التصحيح، وأن الإنسان يومًا ما، على المريخ أو على الكوكب «س»، سوف يتسلط على الإنسان مرة أخرى كما فعل في روسيا الإقطاعيَّة (وكما يفعلون في باكستان الحزينة حالياً). لقد عشت، وأتمنى أن أموت، على إيماني بتورجنيف. أنا أتحدث بمعرفة خاصة، لقد وصف تورجنيف هذا المشهد (المشهد الإقطاعي) أفضل من أي شخص آخر، وأصلحه إلى الأبد.
LITERARY HUB
*دَولَةُ مَغُولِ القَفجَاق، أو دَولَةُ مَغُولِ الشَّمَالِ، أو القَبِيلَةُ الذَّهَبِيَّةُ: هي دولةٌ قامت بدايةً كإحدى خانيَّات إمبراطوريَّة المغول، واحتلَّت الرُكن الشمالي الغربي منها. أسَّسها باطو بن جوجي بن جنكيز خان، وشغلت منطقةً واسعةً في بلاد القفجاق، تمتد من نهر إيرتيش شرقًا إلى أرض البلغار والفولغا غربًا، ومن روسيا وبلاد الصقالبة شمالًا إلى الدولة الإلخانيَّة في إيران وآسيا الصُغرى، بِالإضافة إلى بلاد ما وراء النهر وتُركستان في الجنوب. توسَّعت هذه الخانيَّة التي كانت تتركَّز حول نهر الفولغا، فامتدَّت غربًا حتَّى وصلت إلى جبال الكربات عبر روسيا وبولونيا والمجر وساحل دلماسيا، وبنى باطو مدينة سراي القديمة على نهر الڤولغا في مُنتصف الطريق بين مدينتيّ فولغوغراد وأستراخان المُعاصرتين، واتَّخذها عاصمةً له، ثُمَّ بنى بركة خان سراي الجديدة في المنطقة نفسها واتخذها عاصمةً لِدولته..