تجربة إحسان الجيزاني.. دلالات التجريد وحياديَّة اللون

منصة 2021/02/06
...

 د. خليل الطيار
 
تشكلُ الأعمال التجريديَّة في الفن الفوتوغرافي امتحاناً صعباً لإظهار قدرة اسثمار أمكنتها بمستوى فني فاعل، بسبب حاجتها لمناخات ضوئيَّة خاصة، وتطلبها لزوايا محددة صعبة الحصول، فضلاً عن فقر ما يمكن تحصيله من مضامينها. خوض الفوتوغرافي العراقي إحسان الجيزاني لهذا المعترك الفني الصعب مكنه من إنجاز أعمالٍ فوتوغرافيَّة امتازت بمقومات جماليَّة تمثلت بدقة حرفيتها وتقنيتها وفرادة اشتغالاتها.
الجيزاني لم يتقبل لأعماله التجريديَّة أنْ تسكن في موضوعات جامدة، كثيراً ما تلعب عوامل الطبيعة ومساقطها الضوئيَّة على اقتناصها بتوازنات مختلفة تلعب رؤية المصور واختياراته الذكيَّة لزوايا الالتقاط على قدرة توظيفها، بل هو يعمدُ على تحريك مشهده التجريدي ليكسبه إمكانيَّة الانفتاح على تعميق مضامينه لمساعدة تلقيها بحوارٍ مفتوحٍ لا ينتهي عند انطباعات سريعة عند مشاهدتها والابتعاد عنها بسهولة، ما لم يتمكن من تركها تنفتح على قراءة معمقة يستعين الجيزاني لإنشائها بمفردات بسيطة قوية التأثير.
 
رؤية بصريَّة غير مألوفة
فرغم الاختلافات في إظهار دلالة الغراب في هيئة "التَّطَيُّر والتَّشاؤُم والارْتياحٌ والتَفاؤل" التي تجذرت في النصوص المقدسة وانعكست في موروث الثقافات العربيَّة والمرويات الشفويَّة ووظفت رمزيته الأجناس الأدبيَّة وتحديداً في السرد الشعري، كما في الفنون البصريَّة، إلا أنَّ الجيزاني الذي تعود على تقديم رؤية بصرية غير مألوفة سعى الى الاشتغال على ثيمة "الغراب" بصرياً في دلالة التشاؤم والتفاؤل، وتمكن في عملين أنْ يستثمر جماليات التصوير في هذا التوظيف غيرالمسبوق في منجز الفوتوغراف العراقي.
ولكي يرشدنا مباشرة الى تقفي مضامين أعماله بوضوح، تعمد استخدام الأسود والأبيض ليعمق غرضه الفني، مبتعداً عن تأثير محيط المكان وما توفره معاني فسلجة الألوان. فنصوع البياض في مساحة أحد أعماله الدال على الأمل والنقاء تناقضه حدة اللون الأسود المتمثلة بالغربان وهي تتسيد المكان، ليبعث برسالة صريحة عن حال خراب ودمار واقعنا الذي تمثل بالشجرة كرمزٍ للحياة والعطاء لكنها بدت متيبسة بلا روح وخلت من أية ثمرة أو ورقة مخضرة بعد أنْ استوطنتها "الغربان" ومنعت بهيمنتها أي إشراقة لحياة جديدة. مشهد مأساوي أسمعنا الجيزاني نعيقاً مشؤوماً من عمقه، لكن الجيزاني لم يترك لنا أية فرصة لتعقب أملٍ بتغيير سيأتي من مساحة البياض في صورته عندما استثمر في لحظة ذكيَّة نزول غراب يفرش جناحه في دلالة على استمرار بقاء حال الهيمنة واجتياح الخراب.. عملٌ فوتوغرافي نطق بصوتٍ عالٍ بمفردات سهلة استطاع الجيزاني أنْ يجعلها ممتنعة صعبة الاستحضار.
في عملٍ آخر، عاد الجيزاني ليعادل مسحة التشاؤم متصالحاً مع الموروث القائل إنَّ لا حاجة للثبات على تنميط الغراب بالحالة السوداويَّة كما هي دلالته في قصة قابيل وهابيل التي بينها القرآن الكريم ويظهر الغراب كمخلوقٍ ذكي اختاره الله لتعليم قابيل كيفيَّة مواراة جثة أخيه الذي قتله ظلماً وحسداً وطمعاً.
كما وتصالحت رؤيته مع مرويات أخرى تعدُّ الغراب رمزاً للتبشير بالخير كما في قصة سفينة نوح عندما بعث غراباً يستدل على وجود اليابسة لترسو السفينة فيها وتنجو، وهي دلالة على أنَّ الغراب رمز تفاؤل وخير، أراد الجيزاني أنْ يتصالح معه في عملٍ آخر، عاد فيه الى مستوى التجريد مرة أخرى باسثمار دالة الغراب ليظهره بهيئة الحارس المتوثب لحماية قناديل النور التي أشاعت مساحة الأمل في بياضٍ هيمن على بيئة المكان رغم سواد القناديل! احدوثة بصرية رسمت بادوات بسيطة نجح الجيزاني ان يقدم فيها تاثير جمالي مفعم بثراء التشكيل البصري.
 
قيمة الفراغ
أغلب أعمال الجيزاني مسكونة في اشتغاله على عوالم التجريد الواقعي للأشياء والميل الى العزلة والتوحد معها، فهو يتوغل بهدوء تاركاً لعدسته محاولة الاقتراب منها بتفاعلٍ هادئ لا تشعرك أنه يريد التشاكس مع صخب الأمكنة الضاجة بالانفعال والحركة وزخرف ألوانها، بل يلجأ الى طريقة المراقبة البعيدة لتحديد واختيار التكوين المناسب، وان تشكل من زوايا صعبة قد لا تساعده على استكمال عناصر الصورة وتوازن أبعادها فيستعيض بالذهاب لاستثمار قيمة "الفراغ" فيها كوحدة موضوعيَّة ينجح في توظيفها لإكمال وحداتها، وتجلى ذلك في أحد أعماله التي وظف فيها مساحة الفراغ الذي تسيد مساحة الصورة الى وحدة موضوعيَّة تحولت كقيمة فاعلة لا يمكن تجاوزها مستثمراً حجمها في نقطة ذهبيَّة أنشأتها حركة رشيقة للطيور وشكلت معادلاً قيمياً لموضوع ساكن تحول الى أثرٍ متحركٍ سرد لنا موضوعاً مكتنزا بالمعاني.
 
التوغل في الصحراء
رغم قسوة دلالاتها، تشكل موضوعة الصحراء مادة غنية جمالياً، لطالما أغوت الفوتوغرافيين بالاشتغال على عوالمها التي تساعد ثنائيَّة الظل والضوء المتشكلة من كثبانها في استظهار تشكيلاتها البصريَّة الساحرة. الجيزاني لم يكتف بترك عدسته تغويها هذه المعادلات البصريَّة، بل ذهب ليؤسس تشكيلاً بصرياً قادراً على السرد المؤثر.
فهو في واحدٍ من أكثر أعماله جمالية، نجح في إنشاء معادلة بصريَّة مؤثرة في نتائجها، فرغم صغر حجمه ظهرت لنا قوة شخصيَّة الإنسان القاهر للصحراء رغم اتساع مساحتها وقسوتها، لكنه يتمكن من قهرها راجلاً وهو يرسم لوحة فنية بتوازن حركي راحت فيها سفن الصحراء (الجمال) تقتفي أثره طائعة من دون أنْ تعلن استسلامها، فأسهم الجيزاني بمنحها قوة الحضور كدالة للصبر والجلد والقوة فترك لنا بزاوية ذكية ظلال "الجمال" الراحلة تتشبث بظهر الصحراء تعلن بقاء توقيعها الدائم عليها، حتى وإنْ رحلت مبتعدة فستبقى هي صاحبة الأثر الفاعل فيها.
لم يترك الجيزاني قصته ناقصة في مساحتها العليا فبحث عما يكمل انضباطيَّة توازناتها الجماليَّة ليجد ظالته في زاوية مؤثرة لحركة صقر شامخ وهو يفرش جناحه بحركة رشيقة معلناً سيادته المطلقة على مراقبة الصحراء ورصد أي طريدة أو دخيلٍ قادمٍ، إنه مشهد بانورامي حرص الجيزاني ليؤسس لنجاحه عبر خلق توازنات كتليَّة غاية بالدقة أسهمت بانضاج جمالياته الممتعة بصرياً.
 
إفصاح الوجوه
لم يشأ الجيزاني أنْ يترك تجليات الاشتغال بالأسود والأبيض تنحصر في أعماله الخارجيَّة العامة عن الطبيعة والواقع وأراد أنْ يقترب فيها من "البورتريت" لكنْ من زاوية تدعيم رؤيته البصريَّة التي كثيراً ما يركز فيها على تناسق مترادفات حضور الظل والضوء فيها، وإمكانية تدرجاته على تغيير خطاب تلقيها. فالوجوه مهما احترف المصور في قدرة استظهار تفاصيلها لن يقوى على استنطاق دواخلها إلا بنجاحه في توظيف لحظة وزاوية الإفصاح عما ينعكس من ملامحها لتشكل قيمة تعبيريَّة مؤثرة.
كما في عمله المتميز الذي اشتغل فيه على وجه افريقي تقصَّدَ الجيزاني اختياره دون غيره لما توفرت فيه من انطباعات القساوة والقوة التي تركتها عيون جاحظة ضجت بالأسئلة، زاد التدخل التقني في تقوية شدة البياض فيها لتصل بنا للنطق برغبة السلام رغم ما يفصح عنه الجسد من لغة تمرد ورفض نجحت حرفيَّة الجيزاني باستثمار التدرجات اللونيَّة على إيضاح تفاصيلها لينتج "بورتريت" قربنا الجيزاني فيه لجسد إنسان وجهت لنا تفاصيل تعبيراته القاسية الكثير من الأسئلة رغم صمته.