قرأت مقالة وجيزة نقلها مترجمة إلى العربيَّة الدكتور رحيم الساعدي، والمقالة بقلم فريدريك دولان وعنوانها (الأسطورة والتنوير)، ونشرها في جريدة وزارة الثقافة العراقية (أوروك) في شهر كانن الثاني/ يناير 2021، وقبل ذلك نراها منشورة في موقع (دروب) يوم 23 كانون الأول/ ديسمبر 2020، يقول فيها الكاتب: «الأسطورة هي بالفعل تنوير لأنَّ الأسطورة والتنوير لديهما شيءٌ مشتركٌ هو الرغبة في السيطرة على الطبيعة، ويتجذّر في الخوف من الطبيعة والعدوان».
وكاتب المقال هو حائز على درجة دكتوراه في الفلسفة السياسيَّة في (جامعة برينستون) الأميركيَّة.
هنا لا أتوافق مع الكاتب بأنَّ «الأسطورة هي بالفعل تنوير» إلا من حيث قوة تعطي معنى؛ فالفعليّة هنا غير ممكنة لأنَّ الأسطورة تفكير غير منظّم، بينما التنوير تفكير منظّم غايته الإنسان والطبيعة والمجتمع وأحياناً اللاهوت من حيث تحديد الموقف منه، وأيضاً لا أتوافق مع الكاتب الأميركي «بالشيء المشترك» أو «الرغبة في السيطرة على الطبيعة» كما يقول..، فالتنوير ليس شأنه السيطرة، لا سيما بالقسر، لا على الطبيعة ولا على غيرها لكون التنوير ليس أيديولوجيا حتى يروم السيطرة على غيره؛ وإنْ كان يُفهم كأيديولوجيا فهو معرفة ضيّقة تفقد ضوءها المنير وبالتالي يُمسي معرفة ظلاميّة.
من جهة أخرى، أنَّ تفكير التنوير في الطبيعة لا يجذِّر خوفها من هذه «الطبيعة والعدوان» ذلك أنَّ التنوير لا يعادي سوى الظلام المعشعش في التفكير الإنساني فهو يميل إلى النور، فلا عدوان لديه إلا لمن يريد قمع التنوير في أصله أو قتل النور المَبعوث منه إلى الآخرين إلى الوجود برمته.
وإذا كانت «الأساطير والدين» تحاولان «السيطرة على الطبيعة» فتلك السيطرة إنما هي ضمن خواص وجود الأسطورة ووجود الدين بعيداً، بينما إذا كانا تنويراً أم لا، فلا عدائيّة ولا محبة لدى التنوير بقصد السيطرة على أحد لأنَّ التنوير هو حرية فكيف تتفق الحريَّة مع السيطرة على أحد؟
وإذا كان «العقل» هو المبدأ الأساسي للتنوير، فإنَّ «العقل يحدّد قيمة الدين والتقاليد» وتلك هي قوة التنوير، لذلك أرى أنَّ الأساطير لا تعمل بالعقل في منظومتها على عكس الدين الذي يسوّغ للعقل العمل في ملعبه أما التنوير فهو يغتني بالعقل ليجعله يلعب معه في الساحات والميادين ويمارس فعاليته بسلام ودعة وحرية.
وربما أتفق مع الكاتب بأنَّ التنوير معوله النقد بحيث يمارسه إزاء الدين وغيره ولا يبالي بالقداسة التي تتقدّم وجهة الدين ليس لغرض تجريح الدين أو تشويه صورته إنما تقويمه على نحوٍ عاقلٍ إنْ شئت القول بقدر تعلق الأمر بالإنسان...
وإذا كان الدين يعتمد الوحي والأساطير تعتمد الخيال، فإنَّ صلب اعتماد التنوير على العقل في رضاه أو غضبه أو نفوره، ولا يمكن نفور التنوير أو انزعاجه من قوانين الطبيعة فهي للطبيعة طبع ومسار وقوانين؛ بل هيمنة جهة الهزال الأعمى.
تبقى اللغة الفلسفيَّة والفهم الفلسفي هو الأقرب إلى روح التنوير سواء في حدّ ذاته أو مع غيره من حقول المعرفة، وصاحبنا الكاتب الأميركي يبدو أنه جاء إلى التنوير من دائرة التفكير السياسي الذي يقبل التشبرق أو التمزّق أحياناً على حساب وحدة الموضوع ومتانته.
إنَّ وحدة موضوع التنوير بائنة الوضوح؛ فالتنوير فلسفة قوامها العقل واللوغوس بينما الأسطورة قوامها الميتوس أو (Mythos)، والتنوير فكر يستوجب الدقة في التعبير، بينما الأسطورة تنمو وفق السرد الخيالي، وإذا كان التنوير يستخدم لغة المفاهيم فإنَّ الأسطورة تتطلب المحاججة البلاغيَّة، وإذا كان التنوير يتطلّب لغة مجردة فإنَّ الأسطورة تتطلّب أساليب مجازية عدة، وإذا كان التنوير يتطلّب فكراً حجاجياً استدلالياً، فإنَّ الأسطورة تلجأ إلى الآلهة والأبطال الخياليين، في حين يفترض التنوير فكراً نقدياً فإنَّ الأسطورة هي فكر بلاغي خيالي.