نقاشات فرنسية ألمانية بشأن المصير الأمني الأوروبي

آراء 2019/02/04
...

 د. قيس العزاوي
"الستر الصفر" وازمة اقتصادية تتمثل بعجز السلطات الفرنسية على تنفيذ الاصلاحات التي وعد بها الرئيس عمانوئيل ماكرون، وبالتالي عجزها عن تقديم بعض التنازلات لعموم الفرنسيين الخاصة بالحد من غلاء المعيشة. وازمة رئاسية تتمثل بتراجع شعبية الرئيس ماكرون لدرجة مقلقة. وفي خضم هذه الازمات تتضارب اراء المسؤولين الفرنسيين الذين لم يجدوا سوى مبررات اتهام القوى الداخلية مثل اليمين واليسار المتطرف وقوى خارجية مثل روسيا واميركا في ما يحدث من ازمات في البلاد.
يجري النقاش فرنسياً والمانياً في هذا الوقت الحرج والمقلق ويتخذ صورة الجدل المحتدم اوروبيا واميركيا، ان الدول الاوروبية الفاعلة وبخاصة فرنسا والمانيا ترغب منذ الخمسينات  بقيام جيش اوروبي موحد، وقد وردت فكرة ذلك في المواد 42 إلى 46 من معاهدة الاتحاد الأوروبي (وقعت في روما عام 1957) وتنص على التعاون العسكري الاوروبي (المنظم الدائم والدفاع المتبادل) للدفاع عن القارة الاوروبية وحماية مصالحها في الخارج. وتجسدت الفكرة حين أسس الرئيس فرانسوا ميتران الفيلق الفرنسي الالماني (بفا) عام 1989 ووحدات الجيش الاوروبي التي تضم وحدات عسكرية من خمس دول اوروبية عام 1991 وقد تشاركت خمس دول اخرى في هذا المشروع من بينها تركيا. 
وتوقيع اتفاق بين فرنسا وألمانيا لتصنيع وتطوير مقاتلات اوروبية جديدة، هذا فضلاً عن اعتماد برنامج "ورودرون" الذي تشارك فيه اسبانيا وايطاليا لتصنيع طائرات من غير طيار.. وبناء عليه تأسس صندوق الدفاع الأوروبي عام 2017 بميزانية سنوية تجاوزت 6 مليارات دولار لتمويل ابحاث الدفاع في مجالات من بينها الالكترونيات والبرامج المشفرة والهندسة العلمية وتصنيع المعدات العسكرية الثقيلة مثل الدبابات والمروحيات والطائرات بدون طيار. ..
بيد ان ما يوافق المصالح الامنية الاوروبية لا يوافق بالضرورة المصالح 
الاميركية . 
لذلك حين دعا الرئيس ماكرون الى المضي في بناء الجيش الاوروبي، قام الرئيس الاميركي ترامب برد فعل غير مناسب على دعوته، فقد هاجم المشروع الاوروبي وسخر منه، وهكذا فعلت الاوساط السياسية والاعلامية الاميركية مما حدا بالرئيس ماكرون للقول " إن الاصول تقتضي ان تسود لغة الاحترام ما بين الحليفتين التاريخيتين فرنسا واميركا، ولكن لابد ان نعلم أن فرنسا ليست دولة تابعة لإرادة واشنطن"... تمكننا هذه التطورات من تسجيل النقاط التالية:
أولاً : تسارعت الخطوات الاوروبية لتحقيق استقلالها عن المظلة الامنية الاميركية وحلف الاطلسي بعد وصول ترامب للرئاسة وبدء سياسته التعنيفية للشركاء الاوروبيين ورفعه شعار "اميركا
 أولاً".
  ثانياً : ازداد النقد الاوروبي للسياسة الاميركية بعد أن فقد الاوروبيون الثقة بالرئيس الأميركي ترامب جراء اتخاذه لقرارات فردية عديدة منها: انسحابه من الاتفاق النووي مع ايران ، فرضه ضرائب على الحديد والصلب الأوروبي، وانسحابه من اتفاقية باريس للمناخ، وتخفيضه تمويل صناديق الامم المتحدة ومنظماتها. وانسحاب ترامب من معاهدة حول الأسلحة النووية مع روسيا الخاصة بانتشار الصواريخ 
النووية.
 ثالثاً: ازدياد الحاجة الاوروبية للاستقلال الدفاعي وتوفير الامن السيبراني، لأن الدول الاوروبية تعاني من الاختراقات والتدخلات الاميركية في شؤونها الداخلية عبر طرق امنية والكترونية عدة. وابرز هذه التدخلات فضيحة التجسس الاميركي على الرؤساء الاوروبيين، ونشر وثيقة ألمانية سرية تؤكد تجسس المخابرات الأميركية على أهداف أوروبية والتجسس الصناعي والتجاري والسياسي الاميركي 
على اوروبا .
رابعاً: ترفض الولايات المتحدة التوجه نحو بناء الجيش الاوروبي مدعية بأن الاتحاد الأوروبي، ليس على شاكلة الاتحاد الروسي او الولايات المتحدة، فهو غير موحد سياسياً وليس سوى كتلة اقتصادية، تعاني الكثير من الازمات والمعارضات الشعوبية المتطرفة التي تقلق استقرارها وتعادي مشاريعها الاتحادية. ولا تصمد هذه الادعاءات امام الواقع الاوروبي، لأن أقوى الدول الاوروبية، قد اتفقت على المضي في مشروع الجيش الاوروبي، فنجد الى جانب فرنسا المانيا واسبانيا وبلجيكا والبرتغال وكانت هولندا قبل انتخابات نهاية تشرين الاول الماضي مع المشروع ولكن رئيس الوزراء المحافظ مارك روته وجد عدم الحاجة إلى جيش أوروبي .
خامساً: الموقف الالماني اكثر ضراوة من الفرنسي ازاء اميركا، فقد وجدت المستشارة الالمانية انجيلا ميركل أن الولايات المتحدة لم تعد شريكا يعتمد عليه، وأن أوروبا عليها أن تتولى مصيرها بنفسها .. وعبرت عن عزمها على " إنشاء جيش أوروبى حقيقي، وإنشاء مجلس أمن أوروبي مع رئاسة دولية".
سادساً : يذكر الموقع الاخباري الفرنسي "لوهوفينغتون بوست" ثلاثة اسباب لتأسيس الجيش الاوروبي : اولها ان جيشا موحدا يعني توحيد الرؤى الاوروبية حول التهديدات والتحديات التي تواجه الاوروبيين، والثاني يمكن للمؤسسة العسكرية الاوروبية الموحدة ان تجعل المجتمعات الاوروبية اكثر تماسكاً وتضامناً، والثالث ان امتلاك جيش اوروبي موحد يسمح بالتحرر من المظلة الامنية الاميركية ويحول اوروبا الى قوة 
مستقلة .
مما سبق يتضح لنا العزم الاوروبي على تأكيد السيادة الامنية مما سيوسع الفجوة الاميركية الاوروبية، وبخاصة بعد ان اعتبر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن سعي أوروبا لتوفير أمنها بنفسها أمر مفهوم وطبيعي. وهو يهدف الى تصعيد التخالف الغربي لخرق التحالف
 واضعاف الطرفين . 
ربما يكون في اعادة توزيع القوى العالمية مخرجاً لقضايانا العربية التي ارتهنت منذ اكثر من قرن للقوى الغربية التي تتحكم بحاضر ومستقبل المنطقة. ربما يكون اضعافها قوة لنا .