العقل الثقافي وأبعاد التذوق الجمالي

منصة 2021/03/30
...

د. علاء كريم
 
أثبتت كثيرٌ من العقول وجودها عبر اكتشاف التجارب الفلسفيَّة ومدى تطورها، وقد أطلق على بعض العقول مسميات، منها: “العقل بالفعل والعقل المستفيد والعقل بالقوة والعقل المنفعل”، فضلاً عن وجود عقول تحت عنوانين أساسيين وهما: “العقل النظري والعقل العملي”. وهذا ما ترك نسقاً لشكل التطور الثقافي والفكري لكثيرٍ من العقول التي تعدُّ جامعة لشكل ونوعية الثقافة الفاعلة في واقع المجتمعات واثرها التاريخي المرتبط بـ “معاني” ومضامين هذه العقول مع اشتغالات ثقافية، لا تتشابه مع مضامين العقل، مثلاً: عند “أرسطو” الذي يلامس إبداعه الفلسفي، ومرجعياته الثقافية، وتوظيفه للعقل الإبداعي الإغريقي الملامس لثقافة المجتمع في ذلك الوقت. 
تتعرض أغلب المجتمعات عبر الزمن الى انتقالات تعمل على وجود أفراد أو جماعات مبدعين لهم مقومات تخالف ما اعتاده الناس بظواهرها ومؤثراتها الخارجيَّة الملامسة لطبيعة العقل وانفعالاته من أجل تغير الحدود 
التقليديَّة. 
وهذا ما اهتمت به ثقافة العقل بالأبعاد المنطقيَّة للفلسفة “الأرسطيَّة”، رغم أنَّ اهتمامها كان موجهاً نحو فلسفة الدولة والنظام السياسي عند “أفلاطون، ويؤكد هذا كل ما جرى جمعه من أقوال الفلاسفة والحكماء، على أنها جزءٌ من حكمة الأمم لتنوير العقل العملي الأخلاقي، والسبب يكمن في أنَّ إبداع الفلاسفة حدث ضمن مرحلة كانت أكثر تطوراً في المسار التاريخي، فضلاً عن تراكم الرؤى الثقافيَّة داخله منظومة مرجعياتها الفكريَّة ومنطقها أو عقلها الثقافي.
 ذلك يعني أنَّ لكل مرحلة تاريخية عقلها الثقافي بحكم تسيد أفعالها الروحية وإدراكها العقلي، فـ “العقل” الثقافي الأوروبي يختلف بشكل كبير عن العقل الثقافي في أمكنة أخرى، مثل: العقل الأميركي والروسي والصيني والهندي، رغم أنهم يمثلون مرحلة التطور عبر التاريخ، ولكل منهم منظومة إبداع فكريَّة تتناسب وتستجيب لخلق التذوق الجمالي تجاه بعض الثقافات الفنية الملامسة للعقل الجمالي، الذي لا يعتمد تقليد الطبيعة ومحاكاتها، بل تكون مهمته صناعة ثقافة مغايرة ومتجددة تخلق وتضيف اكتشافات وتصورات تعبر عن الجمال، وهذا ما وجد في فلسفة الجمال عند “اليونان” إذ يقول “راسكين” إنَّ الذوق لم يعد جزءاً من الواقع الجمالي وشاهد عليه، بل هو التعبير الكامل عن العقل وما يقدمه من ثقافات كثيرة، وجهد ثمين له معطيات تحكم برؤى ومفاهيم تتصل ببنية العقل البشري على مستوى الفلسفات القديمة، ورؤية العقل على اعتباره أداة فردية خالصة للإدراك وخالية من أي محتوى فكري سابق.
كما يؤكد “كانط”: أنَّ الذوق هو حكم جمالي قوامه الوجدان، غير أنَّ بعض المفكرين اعتبر أو فهم أنَّ الذوق حكم تأملي، وأن التجربة التأملية هي حالة عقلية وبالتالي فليس هناك فرق بين الوجدان والعقل من ناحية الإدراك والإحساس والتأمل.
ويذكر أنَّ ترجمة كلمة “عقل” بعبارة الفكر بوصفه أداة للتفكير، ومن ثم ربط هذا العقل بالثقافة التي ينتمي إليها، ليتم طرح أسئلة أكثر قرباً بالموضوع المراد التعبير عنه، وربطه بالقوة الإبداعية للإنسان من أجل الاستفادة من التأثيرات الحضارية والاجتماعية والتفاعل الجاد معها، ليتم بعدها إنتاج صورة مغايرة وجميلة تعبر عن المعاني والأفكار الإنسانيَّة، وشكل التذوق المرتبط بعوامل مختلفة بعضها نفسي وآخر اجتماعي والبعض الآخر أخلاقي، رغم أنَّ آليات التذوق أكثر تعقيداً من عملية المعرفة، وأن قوة التذوق تستدعي العقل الثقافي لقراءة العمل الجمالي والحكم عليه؟ على ضوء ذلك يصنف المتذوق على نوعين: الأول يقوم حكمه على الفطرة باعتبار أنَّ النفس من طبيعتها الميل للجمال والكمال.
أما النوع الثاني فهو متذوق مثقف وناقد في أعلى المستويات، يقرأ العمل الفني بوساطة رؤيته لفكر الفنان المبدع، وليس لحياة وظروف الفنان نفسه. مثلاً: لا يمكن معرفة وفهم أعمال أحد كبار الفن كـ “فان كوخ” و”بيكاسو” إلا من خلال فهم ما قدمه عبر تاريخه الفني الطويل والمراحل التي حدثت على تفكيره وأسلوبه.
لذا أرى أنَّ التذوق يحتاج الى عقلٍ ثقافيٍ له أبعادٌ معرفيَّة وفكريَّة تساعد على دعم القدرات المعبر عنها بـ “الحدس” الذي هو أقرب للوجدان عند الأخلاقيين، والعقل” عند أهل العلم للتحليل الذهني وتذوق الصورة وأفعالها الجماليَّة، فضلاً عن صيغته المنطقيَّة التي تستجيب لمرجعيات الثقافة 
الكبرى.