في الأزمة الصحية الحالية، قد نسأل ما الذي يتوجب علاجه بصورة أكثر إلحاحا: الفيروس نفسه أم فقر الإحساس بالاعتدال عند الناس؟.
لقد رأينا لقطات مروعة لمواطنين مذعورين يتشاجرون على آخر حزمة من ورق التواليت، وسخط سياسيينا على اختزان البضائع الأناني، وعدم اكتراث هؤلاء الذين لا يعتقدون أن قواعد العزلة الاجتماعيَّة تنطبق عليهم.
يحدّد الفيلسوف الأثينيّ أفلاطون في محاوراته، خصوصًا في “الندوة” و”القوانين”، ممارسة الاعتدال المَدينيّ (باليونانيَّة sophrosyne) في دولة مثاليَّة.
يرى أفلاطون، مستعينًا بالأفكار التي طوّرها الكتّاب اليونانيون الأوائل من قبل، أنَّ العدل والظلم في الروح يمكن مقارنتهما بالصحة والمرض في الجسد. على الرغم من أنَّ أفلاطون روّج في النهاية للفلاسفة كقادة سياسيين، إلا أنَّ العديد من الكتّاب رأوا القادة كأطباء يعالجون المجتمعات المريضة. هذه الأفكار تغذّي ما نتوقعه من السياسيين اليوم.
أولاً.. لا تتسبب بضرر
كان التأثير العلاجي للسياسيين استعارة قوية بالفعل في شعر بواكير القرن الخامس قبل الميلاد (جنبًا إلى جنب مع فكرة القائد كقبطان لسفينة الدولة).
في نشيد بيثيا الرابع، المكتوب في 462 ـ 461 قبل الميلاد، الشاعر الغنائي بندار يقارن أرسيلاوس الرابع، ملك قورينا، بالطبيب. مستحلفًا الملك أن “يشافي” المدينة التي أضحت جريحة جراء نفي المواطن البارز، داموفيلوس (الذي يعني اسمه تقريبًا “عزيزٌ على الشعب”).
في مسرحية إسخيلوس التراجيدية “أجاممنون”، المكتوبة عام 458 قبل الميلاد، يعلن الملك، بعد عودته لتوه من طروادة، أمام مجلس آرغوس عن برنامجه السياسي. سيحافظ على ما هو جيد، “ولكن كلما دعت الحاجة إلى علاجات للشفاء”، “سيحاول القيام بذلك إمّا بالكيّ أو السكين بشكل معقول لتفادي ضرر الداء”. أي بعبارات بسيطة: قطع الأجزاء الفاسدة بالوسائل الجراحية إذا لزم الأمر.
وفقًا للمؤرخ القديم ثيوسيديدس، فإن نيكياس، الجنرال الذي حذر الأثينيّين من الحملة الصقلية الكارثية في 415 ـ 413 قبل الميلاد، نصح المجلس التنفيذي للمدينة بالتصرف كأطباء “في محاولة لفعل أكبر قدر ممكن من الخير أو على الأقل عدم التسبب بضرر مقصود”.
اتفق كل من نيكياس وخصمه السياسي ألكيبيادس على أن الأثينيين بحاجة إلى تغيير طريقتهم المعتادة في ممارسة السياسة للتعامل مع الأزمة القائمة. أصر نيكياس على تغيير جذري وفوري للعادات، وجادل ألكيبيادس بوجوب أن تكون العلاجات متناسبة.
توازن صحّي
كان استخدام استعارة “القائد كطبيب” من قبل الشعراء والمؤرخين اليونانيين القدامى انعكاسًا لتنامي أهمية “كوربوس أبقراط”، وهي مجموعة نصوص مرتبطة بأبقراط وتعاليمه. تسلط المجموعة الأضواء كذلك على الشدّ بين الطبّ، الذي يعنى أساسًا بمعالجة الأعراض، والفلسفة التي تهدف إلى فهم الماهيَّة ومسبباتها.
تؤيد نصوص أبقراط مفهوم الصحة كنوع من العمل المتوازن: بين العناصر في الجسم كالبرودة، والحرارة، والرطوبة، والجفاف، والحلاوة، والمرارة، أو من ناحية السوائل الجسديّة: التوازن بين الدم، والبلغم، والصفراء، والسوداء.
ألكمايون الكروتوني، وهو كاتب طبّي وفيلسوف مبكّر، يصف هذا التوازن بأنه isonomia (تكافؤ). إضافة إلى ذلك، فقد أطلق على المرض، الذي فهمه على أنه غلبة لأحد هذه العناصر أو السوائل تسمية: monarchia (المَلَكيّ)، مستعيرًا مصطلحه بوضوح من علم السياسة.
سياسة الجسم
أفلاطون، وهو قارئ شره، منشغل بالدستور المثالي، ثمّن استعارة القائد كطبيب.
تستكشف “القوانين”، وهي آخر أعمال أفلاطون، أخلاقيات الحكومة والقانون، بما في ذلك مفاهيم المسؤوليَّة الاجتماعيَّة والقصاص الإصلاحي. اعتقد أفلاطون أنَّ العدالة (باليونانيَّة dikaiosyne) تؤمّن حياة أفضل للأفراد وتجعلهم أكثر استعدادًا لطاعة القوانين. وعلى المستوى الاجتماعي، يقترح “اتحاد العدالة، والاعتدال، والحكمة” كحلٍّ أو وصفة طبية لضمان الانسجام الاجتماعي، مثل التوازن الذي يصبو إليه أبقراط في الجسد.
يدافع أفلاطون عن الاعتدال (sophrosyne) بوصفه سجيّة فضلى في السعي لتحقيق العدالة والفضيلة. كما أنه يشير أيضًا إلى الصحة العقليَّة والاعتدال المدني. إلى جانب الجنون السريري، كما يقول، ثمة مجموعتان أخريان من الأشخاص الذين قد يتصرفون بحماقة: الشباب الذين يمكن أنْ يكونوا متهورين نتيجة السذاجة، وأولئك العاجزون عن مقاومة الملذات والأحزان أو السيطرة على مخاوفهم ورغباتهم وإحباطاتهم. ويصف أفلاطون مرضهم بأنه anoia (انعدام التعقّل).
إنَّ “علاجه” المقترح محفوفٌ بالمخاطر: لغرس الشجاعة الدائمة في نفوس المواطنين، كما يناقش، قد نستخدم عقّار الخوف لإثارة الخوف فيهم اصطناعيًا، أما الخوف من سوء السمعة أو الخوف من العدو. من خلال استعمال عقّار شبيه بالنبيذ كدواء (pharmakon)، سيتم تطهير المواطنين من الرذيلة واستعادة الشعور بالاعتدال.
تعلّم الاعتدال بالطريقة الصعبة
في كتاب ثيوسيديدس “تاريخ الحرب البيلوبونيسية”، يطلق الفتى الشرير في التاريخ اليوناني، ألكيبيادس نداء مألوفًا لحمل السلاح:
... أفهم أنه لا الشباب ولا الشيوخ يستطيعون فعل أي شيء بدون بعضهم البعض، ولكن سوية، الطائش والمعتدل والصارم للغاية، عندما يتّحدون، سيكونون أكثر قوة. وعدا ذلك، من خلال الاستغراق في التقاعس، فإنَّ المدينة، مثل أيّ شيء آخر، ستنهك نفسها ...
بلغة سياسية حديثة: كلّنا معاً في هذا الأمر.
قد تكون المشكلة أنَّ المواطنين اليوم يتلقون رسائل مختلطة. من جانب، يسمعون صرخة تحشيد ألكيبيادس. لكنهم يسمعون أيضًا، من خلال أفواه أصحاب المناصب السياسيَّة، أسلوب العلاج الأكثر صرامة الذي ينتهجه خصمه السياسي نيكياس لمجتمعٍ مريضٍ في حالة حرب. طلب نيكياس من الأثينيين التصويت لصالح “البقاء في البيت”، وأثبت التاريخ أنه كان على حق.
The Conversation