شعريَّة الوهم في فيلم {الأب}

منصة 2021/04/13
...

د. عذراء ناصر
 
يفتتح أنتوني هوبكنز حبكة فيلم الأب للمخرج والكاتب المسرحي الفرنسي فلوريان زيلر، ويستند الفيلم إلى نص مسرحية المخرج زيلر التي عرضت عام 2012 بالعنوان ذاته وهو من إنتاج مشترك بريطاني/ فرنسي، يقدم لنا هوبكنز الذي يؤدي دور أنتوني شخصية بطل الفيلم بسؤال “هل من أحد هناك؟ Is there anybody there? “ وهو اقتباس لبيت من قصيدة “المستمعون The Listeners” وهي من أشهر أعمال الشاعر الإنكليزي والتر دي لا مير (1873 - 1959) المولود في مدينة كنت البريطانية لأسرة نصف فرنسية.
تعود كتابته للحقبة الجورجيَّة مطلع القرن العشرين وهي الفترة التي حكم فيها الملك جورج الخامس انكلترا وتشير بشكل رئيس إلى الأنثولوجيا الشعريَّة التي نشرها هارولد مونرو وحررها إدوارد مارش لتضم مجموعة نصوص الكُتّاب الجورجيين التي نشرت بين عامي 1911 و1912 ومنهم الشاعر والتر دي لا مير المعروف بكتابته لقصص الأطفال القصيرة وكذلك قصص الرعب ذات الطابع النفسي، أي التي تتناول المشكلات النفسيَّة للأبطال بحبكة غرائبيَّة، ومثل هذا النتاج الأدبي قد تزامن مع الدراسات العلميَّة الجديدة ونظريات علم النفس على يد فرويد واتسمت بطابع التجديد الذي خاض فيه الشعراء في فترة ازدهار الحوار والنشر وبدايات عصر الحداثة التي تأجل مشروعها بسبب اندلاع الحرب العالميَّة الأولى رغم أنَّ بذراتها بدأت فعلاً مع الشعراء التصويريين وشعراء الحرب ومنهم الجورجي روبيرت غريفز الذي نجا من الحرب ودي أج لورانس وسغفريد ساسون وروبرت بروك صاحب قصيدة “الجندي” التي يقول فيها: “إنَّه اذا ما مات في حقل أجنبي غريب فستبقى هذه الأرض إنكليزية إلى الأبد”، وهو من شعراء الحرب الذين قتلوا فيها رغم أنَّ وفاته كانت بسبب بعوضة سامة في اليونان.
كان دي لا مير واحداً من هؤلاء الشعراء الذين أشعلوا جذوة الحداثة لكنَّ انطلاقتها تأجلت إلى العشرينيات بعد انقضاء الحرب وازدهار عصر النشر مرة أخرى. تميّزت كتابات دي لا مير بالغرابة والغموض والخوف وقد نشر العديد من قصص الأطفال بالإضافة إلى نتاجه الشعري الذي استعار سرده الغرائبي الغامض ومواقعه المثيرة.
يخوض أنتوني الشخصية الرئيسة للفيلم التي يؤديها العبقري أنتوني هوبكنز رحلة مع دي لا مير منتقلاً من غرائبيَّة عالم الكبار المشوش للذهن إلى خوف الأطفال والبراءة والنكوص التي تتجلّى في آخر مشهد، إذ تتدهور حالة البطل العقلية فتعود به إلى حالة الطفل الباحث عن والدته بعد ترك ابنته له في مركز رعاية المسنين. وهذه قضية أخرى تكشف قصة الفيلم عنها أو ربّما تثيرها كونها قضية حسّاسة جدّاً رغم شيوعها في بريطانيا إلا أنَّها توضّح أيضاً هذا الجانب الإنساني الذي يعاني منه المجتمع البريطاني. رغم تكفّل الدولة بموضوع الرعاية هذا إلا أنَّه يشكّل إذا جاز القول معضلة إنسانيَّة واجتماعيَّة تلحق بكبار السن لا سيما المصابون بمشكلات الخرف والأمراض العقلية كالزهايمر وغيرها، إذ تدفع الحياة العملية والحالة الاقتصادية بالفرد البريطاني لاتخاذ تدابير مثل هذه لتجنب مشكلات الفقر وخسارة الأعمال والاستمرار بالعلاقات الطبيعيَّة خاصة في ظل رعاية الحكومة لمشاريع رعاية المسنين وبدرجة عالية من الاهتمام، إلا أنَّها لا تشكّل إلا بوابة تجنب عقل أنتوني الدخول إليها طيلة رحلة الفيلم.
يأخذ البطل المشاهد معه بعبقريَّة مخرج الفيلم الذي هو كاتب القصة ذاته حيث الرحلة بين الوهم والحقيقة تتجلى بجملة دي لا مير “هل من أحد هنا Is there anybody there? “ بصوت الإلقاء ذاته الذي يستعمله قراء النصوص المحترفون ومنهم هوبكنز نفسه في قراءة نص القصيدة الانكليزيَّة وبالاندفاع الشعري ذاته، حيث تنتهي رحلة مسافر يصل إلى كوخ صغير ينادي من خلف بوابته على سكان الكوخ الذين يصفهم الشاعر بأنهم أشباح يستمعون إلى طرق الباب وسط صمت الغابة التي تخلو من أي صوت غير صوت حوافر حصان المسافر وأجنحة الطير الذي يرعبه طرق الباب، فيعلو طائراً بعيداً عن نافذة العلية وليس هناك في الأجواء غير صدى سؤال المسافر وشعور القارئ بوجود الأشباح خلف الأبواب كما تتردد الأوهام حول أنتوني المحاط بأشباح يحاول السيطرة على خروجها ودخولها لمنزله دون جدوى، رافضاً الواقع في أنَّ الحقيقة الوحيدة المتمسك بها وهي أنَّ هذا المسكن هو بيته الأثير الذي يحب البقاء فيه ليتبين لاحقاً له أنه بيت الابنة وأنه انتقل إليه مؤخراً.
لكن حبكة القصة تظهر للمشاهد المشوش بين الوهم والحقيقة أنه موهومٌ أيضاً وحتى الحقيقة التي اكتشفها هي أيضاً من صنع عقل البطل وأنه يسكن دار المسنين منذ مدة تسبق جميع أحداث الفيلم.
يقدّم لنا المخرج طبقات متراكمة من الأوهام المشفرة التي على المشاهد حلها للوصول إلى الحقيقة أو الأصح الهروب منها.
تطرح قصيدة دي لا مير كما يرى النقاد بُعدين للزمن؛ يطرحهما زيلر من خلال بحث أنتوني عن ساعته طوال أحداث الفيلم، متماهياً مع قصيدة دي لا مير تاركاً المتلقي أمام افتراضين: الأول يفترض وجود المسافر في الحاضر بالتالي فإنّ نِداءهُ موجّه إلى الماضي وأنّ الأشباح هم ليسوا سوى ذكرى لأناس متوفين ينادي عليهم البطل من دون جدوى وهنا يتردد وجود لوسي ابنة انتوني المفضلة المتوفاة الحاضرة عن طريق اللوحة التي يلاحقها أنتوني فوجودها يبعث له الاطمئنان ويلغي الفترة الزمنية التي يحاول الهروب منها لأنَّها تتضمن وفاتها. والافتراض الثاني يسحب المسافر إلى الماضي وبالتالي يقدم الافتراض أنّ الأشباح المستمعين هم ليسوا سوى المشاهد أو القارئ في المستقبل، إذ لا تواصل بينهم وبين البطل إلا عبر الشاشة أو حدود المسرح وهي تقنية فنيَّة للتفاعل على طريقة المسرح الشكسبيري الذي يلغي هذه الحدود ويجعل المشاهد جزءاً من العمل المسرحي أو العمل الفني متماثلا مع البطل وهمومه لتحقيق وحدة Cathartic أو تطهيريَّة ووجدانيَّة وفق فلسفة أرسطو التي وضعها في كتاب (فن الشعر) التي تشرح أثر المأساة في تطهير العقل والوجدان بالتماثل مع البطل الدرامي والعمل الفني. 
يترك لنا مسافر دي لا مير رسالة يقول فيها إنه هنا للحفاظ على كلمته “ Tell them I came, and no one answered, That I kept my word “ لكنَّ المستمعين لم يحركوا ساكناً أبداً ولا يسمع في المجال حوله إلا صدى صوت حوافر الحصان تجر وراءها آخر وقع لها على أرض الغابة. هكذا يعلو صوت الأوبرا مرَّات في الفيلم ثم يختفي ثم يفتح أنتوني نافذة على الشارع الذي يراقب فيه صبياً يلعب بكيس يطير في الهواء عبر الساحة التي تطل على نافذة المنزل. لكننا نكتشف أنَّ النافذة هذه ليست سوى نافذة تطل على باحة دار الرعاية؛ حيث يقضي المسنون وقتهم بالتنزه.
بين الصدى والوهم تتدهور حالة البطل إلى مرحلة الاكتشاف الأخيرة التي يغادرها أيضاً بالنكوص إلى مرحلة الطفولة والبحث عن حنان الأم في ابنته التي غادرت أو الممرضة التي سبق أنْ رفض وجودها في مرحلة سابقة من الفيلم. يقدم زيلر الأحداث على طريقة السرد غير الخطي أو ما تسمى بتقنية (non-liner) أي العرض المتقطع للأحداث الذي يحاكي تشوش عقل البطل والأوهام والهلوسة التي ترافق ذلك، تاركاً المشاهد متتبعاً خطى العلامات التي يقدمها كاتب القصة للإمساك باللحظة التي ستكون قد مرَّتْ أصلاً في لعبة الابعاد هذه.