{الغنائيَّة} وإشكاليَّة الشعريَّة العربيَّة

ثقافة 2021/04/28
...

  محمد صابر عبيد
يمكن المجازفة بالقول إن الوظيفة الجوهرية للأدب والفن عموماً هي الإمتاع الذي يجب أن يصل إلى درجة الإشباع، حتى يتسنى للمتلقي الإيمان بقوة النصّ الأدبيّ وقدرته على القيام بوظيفته في أكمل وجه، وقد يأتي الشعر في مقدمة هذه الفنون وهو ينطوي على معالم واضحة في حساسيّة الإشباع الإمتاعيّ بوساطة آليّات درجَ عليها في هذا المضمار، ولعل أقدم طرق الإشباع هي ما يمكن أن نصفه هنا "الإشباع الوزنيّ" القائم على استيفاء الشروط التقانيّة للبحور الشعرية المعروفة.
إذ يسعى الشاعر العربيّ نحو الإفادة القصوى من إمكانات البحور الشعريّة وترخّصاتها العروضيّة لبلوغ مرحلة الإشباع الوزنيّ، وتعوّد المتلقّي العربيّ على الاطمئنان الفنيّ والجماليّ حين يصل مرحلة الإشباع هذه ليكون قد أخذ من الشعر ما يريد، ولم يشأ أن يتلاعب بمقدّرات هذه الطمأنينة على مدى طويل جداً صار فيه الأنموذج الشعريّ أعنف دكتاتور ضغط على المخيّلة العربيّة والذوق العربيّ وحساسيّة التلقّي العربيّ.
نسفت حركة الحداثة الشعريّة العربيّة مطلع خمسينيّات القرن الماضي هذه الدكتاتوريّة الشعريّة، ونقلت الشعريّة العربيّة إلى مرحلة عصريّة خرجتْ من أسر التقليد وإعادة الإنتاج والخمول الذوقيّ نحو مرحلة جديدة سُمّيتْ "قصيدة التفعيلة"، واستُبدِل بالإشباع الوزنيّ إشباعاً جديداً يمكن أن نصفه "الإشباع التفعيليّ" الذي يقوم على إمكانات جديدة داخل هذه المنظومة، لكنّ المتلقّي العربيّ وقد أخذتْ منه هذه الثورة البارعة مأخذاً لم يعد قادراً على تحمّل التراكمات الفنيّة مهما كانت حداثتها، وصار يضيق ذرعاً بالشموليّة الفنيّة والضغط الوزنيّ والتفعيليّ الشعريّ على النحو الذي قاده للبحث عن آفاق أخرى أكثر حريّة وعمقاً وإدهاشاً، فكانت "قصيدة النثر" القصيدة الأكثر انتماءً للشعر بعيداً عن المحدّدات والقيود العنيفة، وتولّد ما يمكن أن نصطلح عليه "الإشباع الإيقاعيّ" الذي لا ينتمي للوزن أو التفعيلة، بل ينتمي للمعنى الأشمل وهو ينفتح على مولّدات إيقاعيّة غير وزنيّة تقترحها قصيدة النثر في سبيلها النوعيّ المفرد.
توصف الغنائيّة في الموروث النقديّ الشعريّ العربيّ أنّها جوهر الشعريّة العربيّة والعلامة الأبرز فيها، وتنهض الغنائيّة بالدرجة الأساس على فضاء الإيقاع الذي يجب أن يكون المهيمنة الأكبر في القصيدة العربية، كي تتمكّن النصوص من المرور نحو منصّة الشعريّة لتحقّق الانتماء لجنس الشعر، ففي محور "قصيدة الوزن" ليس ثمّة مشكلة لأنّ هذا النوع الشعريّ يقوم في جوهره على "الوزن الشعريّ"، وهو ما يجعل الغنائيّة في هذا السياق ظاهرة على السطح منذ البداية بحيث لا تحتاج إلى تحقّق كبير، إذ اقترنت صفة "الغنائيّة" بالوزن اقتراناً وثيقاً وكوّنت حساسيّتها من حيث المبدأ على هذا الأساس، حتّى اشتبكت الوزنيّة والغنائيّة لدى كثير ممّن قاربوا هذه القضية وكانوا ينتصرون ضمناً للوزنيّة.
قلّلت قصيدة التفعيلة بعض الشيء من غلواء الغنائيّة الصادحة وحاولت تغليفها بالفكر والرؤية ومساحة وجدانيّة أقلّ صخباً، لكنّ الغنائيّة بطبيعتها الشعريّة ظلّت مهيمنة مركزيّة لا يمكن إغفالها أو تنحيتها من مسيرة القصيدة العربيّة، على الرغم من تحييد القافية التي هي وسيلة مركزية فاعلة من وسائل إنتاج الغنائيّة، وعلى الرغم من انفتاح البحر الشعريّ على إمكانات أخرى أسهمت في إعادة إنتاج فكرة الغنائية وإعادة تشكيلها، مع أنّها بقيت في الحدود العامة مستجيبة للمنطق العام الذي يحكم الغنائية الشعرية العربية، وبقيت تدور في فلك الفضاء التفعيليّ العائد ضرورةً على الوزنيّة.
أمّا قصيدة النثر بتخلّيها عن الوزن والقافية معاً فقد زعزعت على نحو ما تاج الغنائيّة في الشعرية العربية، إذ أزاحت عن طريقها عقبة كأداء هي "الوزن" وصار بوسعها التخلّي عن المصدر الأوّل والأبرز لإنتاج الغنائية، بما يجعل قصيدة النثر تتعامل مع الغنائيّة على نحو مختلف من غير أن تتخلّى عنها كلياً، وسعت نحو استثمار إمكانات غنائيّة غير وزنيّة يمكن الإفادة منها لتطرية الحسّ الإيقاعيّ لها، ونجحت منها تجارب مهمّة لكنّ قليلة في هذا السياق لأنّ مفهوم الشعر لم يعد يحفل كثيراً بالغنائيّة بوصفها شرطاً أصيلاً من شروط تحقّق شعريّة الشعر، بل انفتح مفهوم الشعر على وسائل وإمكانات لغويّة وفكريّة ترتفع بالشعر طبقة جديدة ومتعالية، تأخذ القصيدة نحو فضاء مغاير ومختلف للشعريّة العربيّة.
ثمّة تجارب بعد قصيدة النثر قدّمت أطروحات جديدة وصفها بعضهم "ما بعد قصيدة النثر" اقترحت التخلّي عن قطار الغنائيّة، وهو ما يفرض عليها إيجاد بديل شعريّ يضمن السلامة الكلاميّة للشعر في ضوء المعادلة التي تؤكّد انضمام الكلام إلى حقل الشعر، بعد أن كانت الغنائيّة هي المعيار الأكثر سهولة ويسراً لتمييز ما هو شعريّ عمّا هو غير شعريّ، فكيف بغياب هذا المعيار الأكثر استعمالاً وثباتاً وتأثيراً الحكم على هذه الكتابة بأنّها تنتمي لحقل الشعر؟.
لا بدّ إذاً والحال هذه من ابتكار معيار جديد آخر يلائم الكتابة الشعرية الجديدة الموصوفة "ما بعد قصيدة النثر"، حتّى يتمّ وصف الكتابة بأنّها "شعر" بقدرة حجاجيّة عالية يقتنع فيها من له شكّ في ذلك، وسيظلّ هذا الميدان الثرّ والخصب فرصة للسجال والإبداع والتغيير بعد أن انكسرت كثير من التابوهات القديمة، وصار الشعر خياراً ذاتياً صرفاً شرطه الأساس الكتابة الفذّة القادرة على إقناع مجتمع التلقّي بأنّ المكتوب هو شعر بلا شروط مسبقة.