{فرمتة} الذاكرة العراقيَّة

آراء 2019/02/12
...

د. كريم شغيدل
 
أطلق عليه البعثيون (عروس الثورات) وهو في الواقع واحد من أسوأ الانقلابات وحشية وعنفاً، استهل بإعدام الزعيم عبد الكريم قاسم ورفاقه في غرفة الموسيقيين داخل مبنى الإذاعة، ثم توالت أحداث السحل والقتل والتنكيل ومحاكم التفتيش على أيدي ميليشيا الحرس القومي، تحولت المدارس إلى معتقلات وغرف تعذيب، والساحات إلى مسارح عامة للقتل، وعلقت مئات الجثث
على أعمدة الكهرباء، فأية عروس
 هذه؟! نعم كان كما عنون لوركا إحدى مسرحياته(عرس الدم) الذي أقامه البعثيون من حملة رشاشات بور سعيد التي زود بها جمال عبد الناصر عصابة الانقلابيين، لا نريد نبش التاريخ، فالأطراف التي كانت وراء ذلك الانقلاب الدموي أصبحت معروفة عند الشعب العراقي، لكن هناك سؤالاً محيراً، هو كيف نسي العراقيون أحداث 8 شباط 1963بعد عودة البعثيين في انقلاب تموز 1968؟! هل بدافع التخلص من ركود الحكم إبان حقبة عبد الرحمن عارف؟ أم بسبب الخوف؟ أم إن ذاكرتنا تمارس 
محواً ذاتياً.
أعتقد أن من أهم أسباب نجاح البعثيين في السيطرة على مقاليد الحكم بعد 1968 هو خزين الذاكرة الجمعية عن وحشية البعثيين، فصور الجرائم التي ارتكبتها عناصر ما يسمى بالحرس القومي لما تزل ماثلة وحية في الذاكرة، وكأنهم رسموا صورة ترهيبية بقصد أو بدون قصد عن شخصية البعثي، مثلما هولت عصابات داعش صورة الداعشي المتوحش، فسرعان ما استسلم القوميون من أركان الحكم العارفي، ثم استسلم من تعاون منهم مع البعثيين، ثم استسلمت فئات الشعب، بل إن من كان الضحية في أحداث شباط الدامية دخل في جبهة مع القتلة، ثم تعرضوا إلى ما تعرضوا إليه بعد نكبة ضياع الأحلام بتفرد المقبور صدام حسين بمقدرات الحكم وانتهاء شهر العسل الجبهوي بملاحقة اليساريين مجدداً وتشريدهم وإعدام العديد منهم وزج الآخرين بالسجون، وبقية القصة المعروفة في ظل حكم البعثيين من حروب مدمرة ومجاعات ومقابر جماعية وجرائم
 تطهير عرقي.
خزين دموي لا مثيل له خلفه البعثيون منذ تأسيس حزبهم حتى سقوط دولتهم الدموية على أيدي الأميركان في نيسان 2003، منذ محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم في العام 1959 حتى يومنا هذا، وأقول حتى يومنا هذا لأنهم لا يزالون يلعبون الدور الدموي نفسه، إذ تحالفوا مع القاعدة وداعش ومختلف التنظيمات الإرهابية التي انبثقت عقب الغزو الأميركي، وهم كانوا السبب والغطاء الشرعي سواء للغزو أم للنفوذ الأميركي المتزايد في المنطقة منذ الحرب مع إيران مروراً بغزو الكويت حتى هذه اللحظة، ومع ذلك تمارس الذاكرة العراقية على ما يبدو محواً (فرمتة) فيأتيك من يترحم على حكم البعث، مفارقة عجيبة سببها ليس الحكام الجدد وحدهم وسوء إدارتهم لمقدرات البلاد، فالتدهور الأمني الذي أصبح شماعة لتعليق الأخطاء واستشراء الفساد، سببه أطراف إقليمية ودولية لها غايات معروفة، أما البعثيون فقد أصبحوا أدوات جاهزة للإرهاب ومستعدين للتحالف مع الشيطان لتخريب البلاد على أمل العودة في ظل (الفرمتة) 
العراقية.