ما حقيقة ازدواجية الشخصيَّة العراقيَّة اليوم؟

آراء 2019/02/12
...

د.عبد الواحد مشعل
 
تعيش الشخصية العراقية في عالم التحولات الثقافية والانترنت واقعا يضعها في خانة الازدواجية السلوكية ،ما يقدم ذلك شكلا مغايرا عن تلك المعايير التي تكلم عنها الوردي في وصفه للشخصية العراقية فيما بات يعرف بالازدواجية الاجتماعية، فلم يعد ذلك التأثير يرسم ملامح قيم القرية الخالصة أو ملامح الثقافة المحلية الشعبية في المدن مقابل قيم الحضارة ودلالاتها الاعتبارية وتقاليدها ووسائل تنشئتها ، ومن ثم تأثرها بقيم الصحراء وغزواتها التقليدية فالواقع اليوم يقدم لنا شكلا مغايرا تماما لذلك، إنما الأمر تعدى ذلك بكثير فالحواجز التي كانت تفصل بين المدينة والريف أو بين نمط الثقافة الشعبية ونمط الحياة الحضرية قد تكسرت وتداخلت مع بعضها فلم تعد هناك مناطق حضرية (سكان يمتلكون أسلوبا حضريا) ومناطق تمتلك خصائص الثقافة الشعبية الخالصة، وقد صدم الإنسان بهذا الواقع الجديد، اذ وقع فريسة لهذا التداخل، فلم تعد القيم الريفية أو الحضرية التي يحملها الإنسان في بيئته هي تلك التي تمثل الشخصية المميزة بخصائصها الشكلية أو الضمنية إنما أصبح يقف في منطقة يمكن أن نطلق عنها المنطقة المشوهة، وترى ذلك واضحا في ممارسة سكان المدن ذات الامتداد الريفي حين اختلط عندهم الأمر حول السنن العشائرية وكيفية ممارستها والحدود التي تقف عندها وسط جهل واضح بمثل تلك السنن والمعايير التي كانت يوما تعكس سنن العشيرة أو القرية وفي المقابل ضاعت القيم والمعايير الحضرية عند الإنسان الحضري حتى بات هناك نوع جديد من الازدواج المحير في سلوك الإنسان سواء في القرية 
 أو المدينة .
 حتى أضحت مقولة ان الثقافة الريفية والحضرية، ثقافتان متقابلتان وتسيران جنبا إلى جنب في خطين متوازيين غير متقاطعين ، لكنهما متفاعلان مع بعضهما البعض، تحتاج إلى كثير من الفحص والدراسة، و تكشف لنا مدى ابتعاد الإنسان الريفي عن هويته الثقافية بخصائصها وسماتها المعروفة خلال التاريخ   كما أن ذلك لا يختلف كثيرا عن مدىابتعاد الإنسان الحضري بهويته  الثقافية بخصائصها وسماتها المتغيرة والمائلة نحو الفردية والعقلانية  ، وعلى الرغم من المحاولات الكثيرة التي جرت والتي تجري لفهم الفروق الريفية بناءً على سمات وضعها علماء الاجتماع والانثروبولوجيا  والتي وصل بعضها إلى الصفر ،كما هو الحال في المدن الصناعية الكبرى الموغلة في الحضرية فان عملية فهم تلك المسألة لاتخرج عن كون الثقافة الريفية بحدودها الصغرى جدا لا تنفصل عن عملية تفاعل مستمر مع الثقافة الحضرية. فإذا كان الأمر كذلك في المجتمعات المتقدمة جدا فكيف لنا أن نقف 
ونقول أن هناك فروقا جوهرية في مجتمعنا  العراقي بين المدينة والريف بسبب حركة تحضر أو تزايد عدد سكان الحضر على وفق المقاييس الإدارية التي ترى أن كل مركز مدينة أو قضاء أو محافظة حضر وما عدا ذلك ريف، كما يمكن أن يؤخذ على أساس عامل المحكات سواء كانت محكات ثنائية أو ثلاثية فان الأمر في هذا الميدان يقوم على أساس وجود تأثير متبادل ومباشر بين البنية الحضرية والريفية،  لذا فنمط الشخصية العراقية في الوقت حاضر لا يفسر فقط من خلال الصراع بين البداوة والحضارة الذي تكلم عنه الوردي في وقت مضى، لان هذا الصراع لم يعد بتلك الصورة المجسمة التي كان عليها، ما يدعو إلى فتح الباب واسعا أمام  المختصين بهذا الشأن للتوغل بحثا في هذا الجانب. ولاسيما ما بات يعرف بتريف المدن ،والذي يرجع في أهم أسبابه إلى  طبيعة العقلية الحاكمة في المجتمع العراقي الذي عاش صراعا مريرا على مستوى النخب الحاكمة أو السياسيين الجدد بين الريفيين والحضريين، ولاسيما بعد ثورة 14 تموز وبالتالي طغيان الثقافة الريفية على الذين حكموا العراق والذين مثلوا ثقافة النخبة وتضاءلت أمامها فرص ظهور ثقافة حضرية ذات معالم واضحة، وفي الحقبة التي انتعش فيها الاقتصاد العراقي نسبيا وهي حقبة السبعينيات بسبب نجاح بعض الخطط التنموية، التي سرعان  ماانتكس الحال مع دخول البلاد بصراعات وحروب لا طائل منها سوى الدمار والاستنزاف منذ عام 1980 حتى الوقت الحاضر، كما أن لهذه الظاهرة أسبابها الاقتصادية التي عملت عملها في تراجع السلوك الحضري تحت وطأة الفقر والحرمان ولعل هذا يفسر تراجع كثير من تلك القيم الحضرية التي كانت لها مواقف مقدرة في الشخصية العراقية خلال حقب مضت ،ولا تقل الأسباب الاجتماعية عن ذلك فالتراجع الذي أصاب التعليم والصحة والخدمات ترك آثاراً خطيرة على الثقافة العراقية سواء في الريف أم في الحضر، ولاشك أن هذه العوامل وغيرها لا تعمل منفردة إنما تعمل متفاعلة مع بعضها البعض لذا فان كشف مدى تأثير الثقافة الريفية والحضرية في الشخصية العراقية في الوقت الحاضر  بات واضحا بين نمط يمثل الريف ونمط يمثل المدينة، ولكن ليس بالضرورة  ان يعكس ذلك أصل النمطين بأي حال من الأحوال .