المدينة العراقيَّة ورهانات التنميَّة الوطنيَّة

آراء 2019/02/12
...

علي حسن الفواز
الحديث عن التنمية الوطنية يرتبط اساسا بالحديث عن المدينة، بوصفها الفضاء الذي تتبدى فيه فاعليات تلك التنمية، على مستوى برامجها واجراءاتها، أو على مستوى ربط هذه التنمية بالفعل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي
 

 فلا توجد تنمية حقيقية دون مدينة، ودون مؤسسات تؤطر هوية هذه المدنية، عبر تأمين نظامها الحمائي، والحاضن لعديد الممارسات التي تدخل في سياق بناء المؤسسات السياسية الحاكمة.
مشكلة المدينة العراقية اليوم تكمن في عشوائيتها، وفي الطابع المشوه لتنميتها، ولربط وجودها الايهامي بالتاريخ الذي تحمله ذاكرتها، أو ربطها بالحاضر الذي يعكس مدى الرثاثة التي تعيشها هذه المدينة، على مستوى الاجتماع والعمران والخدمات والسكن، أو على مستوى الأهلية التي ينبغي للمدن الحديثة تمثيل تحولاتها وتنمياتها..
المدينة العراقية تحمل معها ومنذ عام 1980 هاجس الحرب، وفكرة المدينة المسلحة، وروح المكان المغلول الى فكرة المتراس، والجدار، وهي صور كرسها الاستبداد السياسي قبل 2003 كنوع من العزل، وكإطار للمكان السياسي العصابي، وهو ما اعطى لبرنامج التنمية الوطنية طابعا مشوها وعائما، وممارسات كرست صور المدينة الفقيرة، والمدينة الغنية، أو مدينة المتن، أو مدينة الهامش، وهذه الثنائيات المرعبة تحولت الى مصادر للاستحواذ، وللهيمنة، وللعزل الديموغرافي الطائفي والطبقي، رغم أن هذا العزل مُلفقٌ في جوهره، وأنّ الطبقات المستحدثة هي طبقات غير تاريخية، ولا هوية ثقافية لها، لأنها جزء من صناعة السلطة ومن نظامها، ومن سوقها ومن معسكرها، ومن قوتها في الافصاح عن تكوينها العصبوي..
 
المدينة الناجحة
من اساسيات المدن الناجحة والذكية هو قدرتها الفائقة والسريعة على إحداث فعل التنمية، وعلى تبني برامجها ومشاريعها، وعلى ادماج المجتمع في فاعليات هذه التنمية، فضلاً عن وضع القوى الاقتصادية الفاعلة والحقيقية في سياق تنافسي على مستوى أنسنة فعل التنمية، كقوة دافعة للتغيير، ولتجاوز تعقيدات تاريخ الصراع الذي عاشه العراق منذ عام 1980، وعلى مستوى خلق الأطر العملياتية لنظام اقتصادي يؤطّر برامج التنمية ويحميها، ويدعم توجهات التحوّل الاجتماعي والعمراني والثقافي، مقابل ربط التنمية بفاعلية السوق الاقتصادية، وفي سياق تتكافل فيه السياسات الاقتصادية الداعمة للانتاج الوطني، مع نظام حمائي له، من خلال برامج حوكمة الضرائب، ومدخلات الاستيراد، وحركة السوق الوطنية، وبإتجاه تحقيق المصالح والارباح، وخفض نسب التضخم والعجز في النظام الاقتصادي، فضلا عن خفض نسب البطالة، فالمدن الناجحة هي مدن تنموية بالمعنى العمراني والثقافي والتعليمي. واقعية البرامج في المدينة الناجحة هي المسار البنيوي الضامن لعلاقات اقتصادية نامية، مثلما هي هدف مستقبلي لتعميق روح الحداثة والتجديد في منظومتها العمرانية، البلدية والانتاجية والتنظيمية على مستوى المرور والخدمات العامة وبرامج صحة البيئة، واعمال الطوارئ وتصريف المياة الثقيلة، وحماية مجتمع المدينة بالخدمات الصحية المتكاملة، وبخدمات الماء الصالح، وكلّ مايدخل في سياق أنسنة التنمية الوطنية بوصفها تنمية بشرية اساسا..
 
الوعي المديني بوصفه وعياً سياسياً
من الصعب الحديث عن إدارة المدينة الناجحة دون الحديث عن المسؤوليات السياسية التي تُدير فاعليات المدينة، على مستوى التخطيط والتنظيم والتيسير والتمكين والمتابعة،  ومايحدث- اليوم- في العراق يعكس مدى العشوائية التي تعيشها ادارات المدن، فالفساد ينخر فيها، والاهمال والمشاريع المتلكئة، أو حتى المشاريع الوهمية هي ابرز سمات الواقع المديني، وبما يجعل هذه المدن تعيش في ظلال فشلها  في الارتقاء الى مصاف المدن الحديثة في العالم.
إن حاكمية المدن  تتطلب وعيا عمرانيا أكثر من حاجتها للضبط السياسي، وللادوار التي تفرضها معطيات المحاصصة، ومظاهر الصراع السياسي بين القوى السياسية، وهو مايعني ضرورة المراجعة، والتعاطي مع واقع المدينة العراقية بمسؤولية واقعية، وبفاعلية الحاجة الى عمران مؤسساتي يقوم على التخطيط الحديث، وعلى تفهّم حاجات المدينة في السياق الخدماتي، وفي السياق الاجتماعي والتجاري والثقافي والرياضي والترفيهي، وهذا مايتطلب جملة من الاجراءات والتشريعات والقرارات التي تضع نصب مسؤولياتها هذه الاهداف، وعلى وفق برامج قابلة للتنفيذ اولاً، وضمن مدد زمنية معلومة ثانياً، وبإدارة واشراف جهات تخصصية قادرة على النهوض بواقع
 المدينة ثالثا.
إنّ الوعي السياسي، وفي مرحلة مابعد الانتصار الواقعي على داعش،  يمكنه في هذا السياق أن يكون داعما للوعي التنموي، ودافعا له للتعجيل في تنفيذ تلك البرامج، وفي حمايتها، ومن منطلق أنّ السياسة هي فعل في التدبير، وجهاز لانجاز مصالح الناس، وخيار عقلاني له ضرورته الكبيرة في هذه المرحلة التي صارت رهانا على انتصار التنمية، وعلى نجاح بناء الدولة، وعلى تأصيل هويتها الوطنية، وعلى أنْ تكون المدينة الناجحة هي أفقها 
ووعدها القادم...