النقد ودوره في التطور الإبداعي للمسرح
منصة
2021/05/27
+A
-A
د . راجي عبدالله
من المفيد تسليط الأضواء على ماهية النقد الأدبي بشكلٍ عام والنقد المسرحي بشكلٍ خاص، وعلاقة كلٍ منهما بالآخر وتأثيره فيه، وما هي الأسس الصحيحة التي لا بُدَّ أنْ تقترن بها كل الظواهر النقديَّة في الأدب والفن، بحيث تصبح جزءاً لا يتجزأ من العملية الإبداعيَّة برمتها وليست خارجة عنها.
النقد المسرحي في عالمنا العربي يحتاج إلى إعادة النظر في العديد من جوانبه، فإنَّ مهمة البحث في هذه المشكلة من أجل إيجاد الحلول الملائمة لخلق حالة نقديَّة سليمة. لذا يتوجب عليَّ تناول أهمية النقد في تطوير الحركة الأدبيَّة والمسرحيَّة منذ المراحل الأولى لنشأة وظهور الأدب والفن بإيجاز، من أجل تسليط الأضواء على أهمية النقد في تطويرهما، وذلك لأنَّ المسرح يرتبطُ ارتباطاً تاريخياً وثيقاً بنشأة وتطور الحركة الأدبيَّة منذ مراحله الأولى.
النشأة
إنَّ نشأة الأدب في البوادر الأولى للحكايات والأساطير والرسائل الأدبية القديمة بعد ظهور الكتابة المسمارية حتى مراحل متقدمة من التاريخ القديم لم ترتبط بأية ظواهر نقدية، إذ لم تصلنا ولم تكتشف حتى الآن أية كتابات نقدية أدبية في العالم القديم، وعليه فإنه لا يمكننا الذهاب بأنَّ تلك القطع الأدبية القديمة على تنوعها قد تطورت نتيجة تأثير النقد فيها، فقد كانت تلك القطع عبارة عن محاولات فردية عفوية للتعبير عن هموم الناس في تلك الفترة، إنها حالة من المحاكاة للحياة وتناقضاتها الكثيرة.
هكذا مرَّتْ البشريَّة بمراحل عديدة من التطور الأدبي والشعري بشكلٍ خاص من دون أنْ يكون هنالك أي أثر للنقد فيها، بحيث ارتبطت بالوعي الاجتماعي ومقدار تطوره ونموه عبر تلك المراحل، وكذلك ارتبطت بمقدار القيمة الإبداعيَّة للنتاجات الأدبيَّة التي وصلت إلى ذروتها إبان العصور القديمة.
بمثل هذا الطريقة ظهرت لنا ملحمة كلكامش، وظهرت لنا القطع المحجوبة وأساطير إيزيس وأوزوريس في مصر القديمة وظهرت لنا ملحمة الإلياذة والأوديسا في اليونان القديم، وبمثل هذه الطريقة الفنية الإبداعيَّة وردت لنا تلك الأعمال المهمة، من دون أنْ تكون هنالك أية إشارة تؤكد أية ظاهرة نقدية مرافقة أو مكملة لتلك الأعمال الخالدة، أو أنها جاءت بعدها بفترة متعددة من التاريخ القديم.
النقد والعمل المسرحي العربي
النص المسرحي، هو وسيطٌ بين المؤلف والجمهور وليس بديلاً عنهما على الإطلاق، والناقد المسرحي للنص لا يتناول هذه المقارنات والمكملات المسرحيَّة تناولاً محدوداً ، من دون أنْ يبتعد كثيراً عن التحليلات السطحيَّة، بل إنَّ من وظيفته تحليل البناء الدرامي وتحليل الشخصيات والأفكار المسرحية ومقولتها تحليلاً أكاديمياً فقط وألا يتحول الناقد المسرحي إلى مؤلف جديد للنص المسرحي، إذ إنَّ لكل مؤلف مسرحي رؤاه الخاصة ومنهجيته الفكريَّة وطريقته في الكتابة.
هذه الوظيفة النقديَّة من خصائص النقد الأدبي بفروعه المختلفة ومنها النقد الأدبي المسرحي، حتى أنَّ بعض المؤلفين الكبار لم يظنوا قطعاً إذا كانوا على قيد الحياة بأنَّ في كتاباتهم المسرحيَّة معاني شتى لم تكن في حسبانهم عند كتابتها، أما الكتاب الراحلون عن الدنيا ولم تبق سوى أعمالهم الإبداعيَّة، فإنَّ من وظائف النقد المسرحي بعث هذه النصوص إلى حيز الوجود من خلال تلك الاكتشافات الجديدة التي توصل لها هذا الناقد المسرحي أو ذاك في العصر الحديث.
هذا من الناحية الأدبية لتحليل النص من قبل الناقد المسرحي، أما عن النقد المسرحي عند التنفيذ فهو يندرج في إطار تحليل النص تحليلاً عملياً عند تقديمه على خشبة المسرح، شريطة ألا يضع الناقد نفسه في موضع المخرج والممثلين وفريق العمل المسرحي ككل، بل يتوجب عليه أنْ يفسرَ ويحللَ ما يجري على خشبة المسرح تحليلاً مرتبطاً بالأفكار والصور الفنيَّة وطرق إخراجها وما هي المنهجيَّة التي انتهجها المخرج والعاملون معه في تقديم عرضهم المسرحي، وما هي العناصر التقنيَّة والمكانيَّة والزمانيَّة المكملة للعرض المسرحي، وأنْ يفهمَ ماذا يعني التمثيل ومدارسه المختلفة، وماذا يعني الضوء وتأثيره البصري في الجمهور، وماذا تعني فلسفة الحوار وفلسفة الحركة في العرض السمعي أو البصري؟ وماذا يعني الإيقاع في العرض المسرحي ككل؟
الناقد المسرحي هو باحثٌ مسرحيٌّ في الأصل، وهو أكاديميٌّ محترفٌ له خبره واسعة في مجال المسرح وله دراية واسعة في العلوم المسرحيَّة، ومعرفة أكيدة في جزئيات العمل المسرحي الاحترافي، وفي مثل هذه الحالة تقع عليه مسؤولية كبرى في رفد الحركة المسرحيَّة بالأعمال الجيدة والحفاظ على ديمومتها وتألقها باستمرار، ولا ننسى أبداً أنَّ النقاد والباحثين المسرحيين هم الذين أرسوا قواعد المدارس الفنيَّة بكاملها، وهم الذين بينوا الفوارق بين تلك المدارس والمذاهب على أساسٍ علمي مدروس.
إنَّ بعض النقاد المسرحيين المحترفين غالباً ما يسعون دائماً إلى معايشة العمل المسرحي ابتداءً من القراءة الأولى للنص مروراً بالتدريبات المسرحية التي قد تستمر شهوراً عدة، وذلك لدراسة الخط البياني لتطور عمل المخرج والممثلين ومجموعة العمل المسرحي ككل، والتعرف على معاناتهم اليوميَّة عن قرب وهم يبذلون جهداً إنسانياً استثنائياً كبيراً لبلوغ غايتهم في تقديم عرضٍ مسرحي قد يرضي الجمهور أو لا يرضيه.
وبهذه الطريقة يتمكن الناقد المسرحي (الباحث) من تكوين رابطة سليمة مع ملاك العمل المسرحي ومع الجمهور بحياديَّة تامَّة وكل ذلك سيؤدي في النهاية إلى تسليط الأضواء على معنى الاحتراف في العمل المسرحي، ويؤدي فعلاً إلى تعميق المعرفة للعاملين في المسرحيَّة، وإلى المراجعة الذاتيَّة لكل الأعمال المسرحيَّة الماضية وأهمية تقديم ما هو جديد ومبتكر من أعمالٍ إبداعيَّة في المستقبل.
النقد والتواصل مع الجمهور
إنَّ النقد المسرحي (الاحترافي) هو الذي أسهم مساهمة فعالة في تطور الحركة المسرحيَّة في أوروبا والعالم المتقدم، نتيجة الدور الذي لعبه النقاد والباحثون الأكاديميون في رفع مستوى الوعي العام للمتلقين، كما أنه أسهم في استمرار العروض المسرحيَّة وتألقها وديمومتها حتى يومنا هذا، لأنَّ النقد هو الذي يساعد كثيراً في تقوية الأعمال المسرحيَّة، والحفاظ على رصانتها وتماسكها مهما كانت الظروف قاسية وصعبة، ومهما واجهت هذه المجتمعات مختلف الأزمات فإنَّ المسرح سيبقى ذلك الفعل الإنساني المؤثر والفعال في حياة الناس، لأنه فعلٌ مباشرٌ ذو قيمة إبداعيَّة وإنسانيَّة عالية.
فهل يمكن القول إنَّ المسرح العربي والعراقي قد وجد له مكانة خاصة بين مسارح العالم؟ وهل يمكن التسليم بأنَّ المهرجانات المسرحيَّة العربيَّة التي تقام في هذا البلد العربي أو ذاك بمشاركة عروضٍ خارجيَّة من بلدان العالم المختلفة قد حققت له ما أراد في أنْ يكون المسرح العربي؟
إزاء هذه الحالة لا يمكن أنْ تكون للمسرح العربي هويته الخاصة في ارتباطه بالمسرح العالمي من بعيدٍ أو قريب إذا بقيت هذه الأوضاع التي أشرت إليها، وبقي المسرح العربي يعتمد على الجهود الفرديَّة للعاملين فيه، وبقيت المؤسسات الثقافيَّة والفنيَّة العربيَّة الرسميَّة تقدم مساعدات شحيحة إلى تلك العروض أو أنْ تدير ظهرها إليها، أو أنْ يهيمن بعض القائمين على تلك المؤسسات المسرحيَّة هيمنة تامَّة في تقديم عروضٍ مسرحيَّة لفنانين دون غيرهم في كل المواسم المسرحيَّة.