العمق الستراتيجي وصراعات السياسة التركية

آراء 2021/05/29
...

  صلاح حسن الموسوي
تقريبا، يتفق معظم من قرأ كتاب وزير الخارجية التركي السابق احمد داود اوغلو (العمق الستراتيجي) على ضرورة التركيز والتمعن بما ورد فيه، بالنسبة للسياسيين المعنيين بالشأن التركي وانعكاسات تطوراته الجيو ستراتيجية على الدول المجاورة لتركيا. خصوصا وأن هذا الكتاب يعد برنامجا سياسيا بعيد المدى والآفاق للسياسات الخارجية التركية بعد تكرّس حكم حزب العدالة والتنمية، وقناعة الاتراك بتحول دورهم من (القوة الأقليمية الخاملة) الى قوة دولية شابة تملك مقومات التعامل والتأثير والاستقطاب على مستوى النطاقات  (الأفرو اورو اسيوية)، وفي هذا الشأن يدفع اوغلو بالمسوغات التي تمنح الثقة للترك باستثمار مكانتهم التي اكتسبت من انتصار حلف الأطلسي في الحرب الباردة، لكونها دفعت نصيبا من ثمن هذا النصر اكثر من دول الحلف الأخرى.
 
يسلم اوغلو بأن أهم نتائج مرحلة ما بعد الحرب الباردة هي اعادة تحديد نطاقات التأثير المتبادل بين الأقاليم، ولهذا يضم نطاق التأثير المتبادل المشترك للأقليم الجغرافي القريب (القوقاز – الشرق الأوسط – البلقان) بداخله حزام البحر الأسود- ايجه – شرق المتوسط- بلاد الرافدين- الخليج العربي، إذ تشكل هذه المنطقة مركز الشرق الأوسط وشماله، وكل سياسة تتعلق بهذه المناطق ينبغي ان تقيّم في اطار ستراتيجي واحد، وبدورها اتخذت الأرتباطات الجديدة علاقة توازن بين (النفط- المياه – النفط (عبر الخط المروري الذي يربط اقليم بحر قزوين ومياه بلاد الرافدين ومشروع جنوب الأناضول (الغاب) والموصل ومنطقة الخليج العربي، وهنا يعد العراق أهم مركز لهذا الخط الجيو اقتصادي، ويقطع اوغلو بالقول، على ان الفعاليات الإرهابية لحزب العمال الكردستاني التي بدأت تتصاعد بعد حرب الخليج الثانية هي احدى نتاجات علاقة الارتباطات الجيو اقتصادية 
هذه.
يقارب داود اوغلو الموضوع العراقي من حيثيات تركية بحتة لاتخلو من رواسب الاستعمار العثماني السابق للعراق، وقد يكون الاضطراب المتواصل للوضع العراقي منذ اندلاع الحرب العراقية- الإيرانية وحتى الساعة، حجة في تسويغه لنوعين متوازيين من السياسة التركية تجاه العراق، احداها ناعمة تتمثل بالانفتاح الاقتصادي، والأخرى عنيفة يمارسها الجيش التركي بشكل متواصل داخل الأراضي العراقية بحجة محاربة حزب العمال الكردستاني وفي هذا السياق يقطع بالقول:  {إن حساسية مسألة كركوك بالنسبة لتركيا ترجع الى مبررات تاريخية، فعندما تخلت تركيا عن كركوك والموصل كانت قد وضعت اساسين لهما قابلية الاستمرار، وهما ان لايمثل العراق تهديدا لتركيا، وان يتطور الاقتصادان التركي والعراقي داخل اطار من السلام المتبادل}، وهنا يقرأ التهديد العراقي لتركيا بالدرجة الأساس من القضية الكردية التي يعدها الأتراك التهديد الأول لأمنهم القومي، وليس بالفارق لديهم تباين الرؤيتين الأميركية والأوروبية لهذه القضية إذ يعدها الأميركان قضية عراقية، في حين ينظر اليها الأوروبيون كقضية تركية، فأوغلو يقر بتحول منطقة التوتر والحرب في الشرق الأوسط منذ ثمانينات القرن الماضي من منطقة الحدود العربية الأسرائيلية الى منطقة الخليج العربي وتركيا، وأن عنصري الصراع السابقين المتمثلين بـ (النفط واسرائيل) قد تغيرا الى عنصري (المياه والكرد)، لذا فإن تركيا تشاطر دول جوار العراق بالعمل الفاعل والتنسيق لمنع تقسيم العراق عبر تنظيم المبادرات وعقد القمم الخاصة بدول الجوار العراقي، فضلا عن عدم حصر العلاقة التركية بالدولة العراقية فقط، بل الامتداد الى جميع الفصائل والمجموعات ذات الفاعلية والتأثير داخل البلاد، اما في موضوع المياه فيمكن اكتشاف نوع من التناقض في الرؤية التي يسوقها داود اوغلو إذ يقر بأن المشاريع المائية الزراعية في جنوب الأناضول التي تمولها تركيا بميزانية كبيرة، ليست جزءا من التنمية الاقتصادية فحسب، بل انها عنصر مهم في موضوع الصراع الجيو ستراتيجي على المدى البعيد، ومن جانب آخر ينفي احتمالية تحول الخلاف على مصادر المياه في الشرق الأوسط الى ساحة صراع حقيقي بل يعد القضية دائما ماتكون انعكاسا لمناورات داخلية يتم تضخيمها وتصعيدها في فترات التأزم التي تعتري مباحثات السلام في الشرق الأوسط، وايضا يأتي توقيت التصعيد في الفترات التي تشهد حدوث تطورات في منطقتي البلقان والقوقاز، ومحاولة احراج الدبلوماسية التركية النشطة في هاتين المنطقتين بمحاولة صرف انظارها صوب التهديدات في الجنوب التركي، وفي كل الأحوال توفر مشكلة المياه مناخا لصِدام محتمل تتصاعد حدته على نحو يفسح المجال للمناورات الدبلوماسية، ثم يعود من جديد الى مساره 
الطبيعي على حد قول اوغلو.
يضع اوغلو العراق ضمن خط (القوقاز-الرافدين – الخليج) وفق رؤية جيو اقتصادية بحتة ترتكز على عنصري (النفط- المياه)، ويقلل من اهمية العراق كطريق مرور ستراتيجي لهذا الخط، إذ يذكر بأن أقصر الطرق المرورية لأقاليم القوقاز – شرق الأناضول –  بلاد الرافدين، تمر عبر سوريا، أما الحدود العراقية ومناطق شمال العراق المحاط بالجبال الشاهقة فتمثل بديلا طارئا، وضع في الظروف الطارئة للحرب العالمية الأولى، وقسم ذلك الأقليم تقسيما زائفا على حد قوله، فبينما تحظى سوريا وهي دولة محرومة من مصادر النفط بأهمية لكونها منطقة مرورية، فإن العراق يعد اهم مركز لذلك الخط الجيو اقتصادي، وتظهر ابرز دلائل التعريف لـ (جيو اقتصادية) العراق بالرفض والمماطلة بشأن الحق القانوني للعراق بمياه الرافدين والاصرارعلى اعتبار دجلة والفرات ثروة تركية بحتة أسوة بالنفط العراقي، وفي هذا الشأن يقول اوغلو: {في ما يتعلق بستراتيجية تركيا طويلة المدى تجاه الحزام الجيو ستراتيجي الممتد من شمال القوقاز حتى الخليج، فمن المؤكد انها مضطرة الى اعادة تحديد المبادئ الأساسية لهذه الستراتيجية سواء من حيث توزيع مصادر المياه والنفط او من مكانتها داخل الوضعية الجيو سياسية الدولية}، اما ما يخص الوضع الكردي العراقي فإن اوغلو يضيف حكومة  (كردستان العراق) الى المثلث الستراتيجي الصغير في الشرق الأوسط الذي يضم (الأردن – لبنان – فلسطين)، وعلى ضوئه تتعامل حكومة (العدالة والتنمية) مع حكومة الأقليم بسياسة مستقلة عن تعاملها مع الحكومة المركزية في 
بغداد.
حاليا وفي ظل انخراط تركيا كقطب فاعل في قضايا المنطقة، وتبنيها منذ ماعرف بـ (الربيع العربي) لحركة الأخوان المسلمين، وتدخلاتها العسكرية المباشرة في سوريا وليبيا وارمينيا والعراق، تكون تركيا قد ادارت ظهرها تماما لمبدأ (صفر مشاكل) الذي وضعه اوغلو ضمن اساسيات السياسة مع دول الجوار، وبدلا عنه تسابق الأتراك مع الآخرين من اوروبيين وايرانيين لاحتلال موقع بارز في خريطة الاستقطاب العالمي الجديد، مستفيدين من قدرات حلف الناتو ومنظمة التعاون الاسلامي وقدرات بعض الدول الخليجية الغنية، ومد النفوذ في الشرق الأوسط وشرق المتوسط التي يعده اوغلو ثاني مناطق الالتقاء المهمة بالنسبة لتركيا، بوصفها الحزام الأدنى لمحاور القوقاز – الشرق الأوسط- البلقان.