من هو «موزارت» الحقيقي؟

بانوراما 2021/06/02
...

  ترجمة: مي اسماعيل
لم تكن السنوات التي تلت وفاة {وولفغانغ أماديوس موزارت}رفيقة بالحقيقة التاريخية؛ إذ أعمت القصص الرومانسية؛ عن عبقري معذب ابتليَ بالفقر؛ الأنظار عن المؤلف وموسيقاه.. هنا يكشف كاتب سيرة موزارت الذاتية {جان سوافورد} عن الرجل وراء الروايات. 
استنزفت الولادات المتكررة (خلال سنوات زواجهما العشر) صحة “كونستانز” زوجة موزارت، واعتلّت لأشهر طويلة، فغادرت منزلها الى بادن. وكان زوجها يفتقدها كثيرا ويزورها بانتظام. لكن صحتها تحسنت وأصبح مزاج زوجها جيدا.. كان يستمتع بردود الفعل تجاه واحد من أكبر نجاحات حياته؛ هو: أوبرا {الناي السحري
 - Die Zau berflöte} وينعم بشكل خاص بمديح منافسه المفترض {أنطونيو سالييري}؛ الذي ذهب معه الى المسرح وهتف مغتبطا طيلة العرض. فكانت بهجة الحياة التي عبر عنها موزارت في رسالة له الى زوجته (تشرين الاول 1791) تمثيلا صادقا لشخصه وصدى لحياته وموسيقاه. ورغم شعوره بالتوعك لبعض الوقت، إلا أن ذلك لم يقلل من بهجته. وغالبا ما كان المرض بسبب انهماكه في الانتاج الفني الكبير المتمثل بلحني أوبرا كبيرين وكونشرتو الكلارينيت وأعمال أخرى اكتملت خلال أشهر، بل كان الامر أشبه بما عاناه عند طفولته؛ بعد الاصابة بالجدري التي كادت تقتله. إذ شرع بتعلم ألعاب الورق حالما جلس في سريره، ونهض ليتعلم المبارزة بالسيف وينتج السمفونيات. عاش موزارت أسابيع قليلة بعد كتابة تلك الرسالة الى كونستانز، وكانت تلك الصفحة المليئة بالحياة آخر رسائله الموثقة. لكنه لم يكن مستعدا للموت، بل كانت لديه آمال كبيرة.. كان على وشك تولي منصب { كيبليمستر- Kapellmeister}؛ أي- قائد اوركسترا كاتدرائية سان ستيفان؛ وهي الوظيفة الموسيقية الأعلى أجرا والأكثر احتراما في فيينا. ثم جاءته أخبار عن نبلاء من هولندا والمجر يعرضون عليه راتبا سنويا سخيا مدى الحياة. 
 
صورة مفترضة للعباقرة
وصلت تلك الاخبار حينما كان موزارت طريح الفراش بحالة سيئة؛ لكنه يبذل جهده لانتاج عمل جديد؛ هو قداس كان مبتهجا لتأليفه، كأمر نافع لعمله الوشيك في الكاتدرائية. 
لقد سبق لموزارت أن عانى المرض الشديد منذ طفولته؛ لذلك استغرق الأمر بعض الوقت ليُدرك أن الوضع مختلف هنا؛ فقد رقد على فراش الموت، ولن يتسنى له أبدا إكمال القداس. هنا يجب القول إن موزارت الذي وصفته الروايات؛ ومنها مسرحية وفيلم المؤلف {بيتر شافير} بعنوان {أماديوس}، وصوّرته بشخصية صبيانية تافهة يُساء فهمها، الفقير الذي كان قدره بين قبور الفقراء؛ لا تمت بصلة الى واقعية حياته. فقد كانت لموزارت مشكلاته مثل باقي البشر؛ وكان بإمكان والده أن يكون مزعجا (مثلما هو حال الكثير من الآباء)، وكان هو ذاته يشعر بالتفاهة أحيانا؛ لكنه امتلك إحساسا راسخا بالقيمة الذاتية وحماية الذات. وإذا كانت مشكلات موزارت المالية تضطهده مع الاقتراب من النهاية؛ إلا إنه لم يفقد مطلقا قناعته بأنها مشكلات مؤقتة وأن الحال ستتحسن.. وهو ما جرى فعلا؛ رغم أنه لم يعش ليهنأ بها. وقد دُفن بذات الاسلوب الذي يُدفن فيه أغلب سكان فيينا، وعند النهاية كان أقرب لوصفه صديقا لسالييري من كونه منافسا له. 
يميل الناس لتوقع أن يكون العباقرة أشخاصا تراجيديين يعيشون تحت ضغط المعاناة؛ لكن موزارت لم يكن كذلك. وعند النهاية كانت التراجيديا الوحيدة الحقيقية لحياته هي وفاته بسن الخامسة والثلاثين، بينما لم يكد يبلغ منتصف الطريق، تاركا في درجه عشرات الأعمال التي لم تكتمل، وقام أحد طلابه بإكمال القداس. هناك ايضا عنصر واحد في أسطورة موزارت صحيح بالفعل: فقد كان شخصية تمثل تعريفا للإعجاز؛ وقد احتل ذلك الموقع منذ أن كان في سن السادسة.. ولد الطفل الذي وصفه والده {ليوبولد موزارت} بقوله إنه: {المعجزة التي أراد الله لها أن تولد في سالزبورغ} يوم 24 كانون الثاني سنة 1761 في غرفة معيشة الأسرة. جلس موزارت قبل ثلاثة أيام من عيد ميلاده الخامس الى المعزف (البيانو)، ولم يكن قد سبق له العزف عليه سابقا مطلقا، واتقن وحفظ خلال نصف ساعة عن ظهر قلب معزوفة كانت أخته {نانيرل} تتدرب عليها. وإذا كانت أخته معجزة في مهدها؛ كان هو نوعا من قوى الطبيعة! وسرعان ما بدأ بتأليف مقطوعات نمت سريعا من حيث الطول والطموح. وفي سن الثامنة كتب سمفونياتٍ لأوركسترا كاملة. وقد وقع هذا كله بمساعدة كبيرة وتصحيح من والده؛ لكن الموسيقى نبعت، رغم ذلك، من الطفل الصغير. 
 
مسيرة المستقبل
توصل الوالد الى خطة غير اعتيادية؛ إذ كان قد اعتزم أن يأخذ طفليه ويرتحلوا ليعزفوا في القصور والبلاطات الملكية على امتداد الخارطة. فرغم كونه عازف كمان ومعلما وملحنا ومؤلفا لأشهر طريقة عزف على الكمان حينها؛ لم تكن خطط ليوبولد بأقل مهارة من كل ذلك. وكان طموحه بالنسبة لطفليه ذا شقين: أولا- إقناع المتشككين في عصر العقل بأنه توجد عند الله معجزاتٌ فعلاً، وأن ابنه مثال على ذلك؛ وثانيا- (وهو الأهم.. على كل حال) هو جمع ثروة له ولأسرته ليضع ولده على رأس موسيقيي بلاطٍ مهم. وهكذا بدأت سنوات اسطورية من الرحلات التي أخذت الاسرة الى ارجاء أوروبا وبريطانيا. وعزفوا في صالونات أسر ارستقراطية ومن الطبقة الوسطى، وأمام ملوك وملكات في فيينا وفرساي وهولندا ولندن. كان الطفلان رائعين؛ إذ لم ينفرا أبدا ولم يفشلا في التألق، وكان الجميع مبهورا. فأعلن الأب ليوبولد (وربما من دون أي مبالغة) أن ابنته التي كانت في سن الرابعة عشرة عازفة تضاهي الأفضل أوروبيا. وكذلك كان ابنه وولفغانغ؛ لكنه كان مؤلفا في ذات الوقت، وسرعان ما نشر مقطوعات ذات مهارة مصقولة وسحر واضح. وكان بامكانه أيضا تحسين مقطوعات السوناتا والفوغا 
(= صنف من المؤلفات الموسيقية يعطي الانطباع للمستمع بمشهد هروب ومطاردة؛ بالدخول المتتالي والمتعاقب للأصوات والتكرار- المترجمة)، أو التقاط نغمة ما وتقديم تنويعات لها. 
انتشرت أخبار تلك الاعجوبة في أرجاء أوروبا؛ وعندما دخل سن السابعة كان وولفغانغ أحد أكثر الاشخاص شهرة في العالم. وحينما اكتشف أحد المدرسين من بون بعد بضع سنوات طفلا عبقريا في العاشرة من عمره اسمه {بيتهوفن}؛ قدمه في موضوع بإحدى المجلات على أنه موزارت المقبل. وإذا كان ليوبولد قد أعدَّ ابنه معجزة ربانية؛ فإن مفكري التنوير رؤوا فيه إعجوبة من الطبيعة؛ لتجري دراستها وفق النواحي العلمية. 
 
صانعو الأساطير
دخلت قصص انتصارات وولفغانغ المبكرة عالم الاسطورة؛ وكما هو حال جميع الاساطير نادرا ما كانت دقيقة؛ رغم أن الواقع كان مذهلا بما فيه الكفاية. جلس موزارت وهو ابن السادسة في حجر الامبراطورة في فيينا وقبلها، وتعهد بالزواج من ابنتها {ماري انطوانيت} (ملكة فرنسا المنكوبة اللاحقة). وبعد أداء امتحان للتأليف الأكاديمي تم قبوله في جمعية موسيقية إيطالية متاحة فقط للبالغين الذين درسوا لعدة سنوات؛ لكن مسعاه تعرقل بعد وشاية خبيثة من قبل أحد المعلمين. استمع وولفغانغ ذات مرة الى قطعة كورالية شهيرة، كان قد حظر الفاتيكان نشرها؛ فدوّنها الفتى الصغير.. والواقع أنه كتبها على عجالة ثم عاد ليجري عليها تصليحات.. كتب وولفغانغ سمفونيات وهو بسن الثامنة، وانتج أول أوبرا عندما بلغ سن الثانية عشرة؛ ومنذ ذلك الحين غدا الطفل مؤلفا موسيقيا ناضجا.. لكن مخطوطات مؤلفاته تحمل تنقيحات بيد والده خلال فترة المراهقة وما بعدها. 
يقوم عمل مصممي الأساطير (حتى عندما لا يؤلفون قصصا بأكملها) على تقديم مواضيع مذهلة، وأن يجعلوا الأشياء الرائعة أكثر روعة. وبقدر تعلق الامر بموزارت حدث هذا خلال القرن التاسع عشر الرومانسي. وكان الجزء الاكبر منه على يد {{أ. ت. ي. هوفمان}؛ مؤلف روايات الخيال والرعب الألماني، وهو فنان ومؤلف موسيقي وناقد. رسم هوفمان في كتاباته صورة المثل الأعلى الرومانسي للموسيقى؛ كما رأينا في وصفه لبطله الموسيقي الرئيسي: {تفتح لنا موسيقى بيتهوفن بآلاتها عالما حافلا بوحوش وأشياء لا تُقاس.. فنصبح مدركين أننا تحت ظلال عملاقة ترفرف الى الأعلى والأسفل، لتلفنا أكثر فأكثر، وتقضي على كل شيء فينا؛ باستثناء ألم التوق اللا متناهي.. وفقط في هذا الألم، الذي يستَنفد طاقتنا بحد ذاته ولكنه لا يدمر؛ يريد الحب والأمل والفرح أن يفتح صدورنا بانسجام كامل لكل الأهواء والمشاعر}. بمثل هذه العبارات إدعى هوفمان أن موزارت هو أول ملحن رومانسي حقيقي؛ وقبل كل شيء بالطريقة التي قدم بها {دون جيوفاني} (بطل أوبرا لموزارت تدور حول غزوات {دون جوان} العاشق الشهير. المترجمة) على انه القوة الجنسية للطبيعة، والبطل الشيطاني الذي تحدى القدر حتى أبواب الجحيم. ولعل الاسلوب الذي شمل به موزارت ضمن الهذيان الذي كان يصوّر المثل الأعلى الرومانسي للفن، واساطيره عن الفنان، وكأنه نصف إله يعاني ليقدم فنا موجها للمستقبل، كان أمرا لا مفر منه؛ لكنه لم يكن موزارت حقـيقة! ذلك الاسلوب كان مناسبا لبيتهوفن؛ الذي كان النموذج الرئيس لعبادة العبقرية الرومانسية. وهكذا جرى النظر الى موزارت من خلال موشور بيتهوفن: ثوري يعاني وقد أُسيء فهمه، مقدما أعظم أعماله (مثل السمفونيات الثلاث الأخيرة) إلى الأجيال القادمة التي ستفهمه أخيرا. لكن النظر الى موزارت من خلال موشور بيتهوفن يعني أنه لم يجرِ فهمه وفق سياقه الخاص.
 
موسيقى خالدة
لقرون عدة كتب المؤلفون الحانا لزمانهم فقط، وكان من المسلم به انه سيجري نسيانهم بعد وفاتهم. أغلب الموسيقى المسموعة كانت موسيقى جديدة، وأول مؤلف ظل عمله ذا قيمة كاملة في المراجع الموسيقية كان هاندل؛ الذي توفي حينما كان موزارت طفلا بسن الثالثة. ولعل بيتهوفن كان أول مؤلفٍ يفهم أن موسيقاه ستكون جزءا من ذخيرة دائمة، مستخدما كلمة {خالدة} لوصف طموحاته.. لكن موزارت لم يفعل ذلك؛ ولا يوجد سجل لحديثه عن شهرة موسيقاه بعد وفاته. وكان قد وضع موسيقاه في متناول جمهوره عبر الامسيات والحفلات الموسيقية، وللمسرح والكنيسة ولكل من اشترى انتاجه. ومن هذا المنظور كان فنانا مختلفا عن بيتهوفن؛ ففي زمانيهما كانت أغلب الموسيقى تُسمع في مجالس خاصة، ولم تُعزف موسيقى الحجرة “chamber music” ولا الرباعيات أو السوناتا في القاعات العامة؛ وحتى السمفونيات كانت تُعزف في الصالات الخاصة. كان بيتهوفن إلهاما لنمط متزايد نحو الاداء العمومي في قاعات كبيرة، ويمكن القول باختصار انه كتب للانسانية. أما موزارت فقد كتب للناس؛ لمن عرفهم في دائرة اصدقائه الكثيرين؛ من التجار وزوجاتهم وأولادهم المتحمسين للموسيقى وصولا الى كبار النبلاء. ورغم أنه كان يأمل بنيل عمل في الكنيسة (كما سعى والده)؛ لكنه من الناحية الواقعية كان أكثر استقلالية وفخرا عن العمل الوظيفي، وهناك تساؤل كبير عن مدى نجاحه (لو كان قد شغل المنصب). كان موزارت في غضون ذلك ماسونيا ملتزما؛ وذلك النظام جزء من الطليعة السياسية التقدمية حينها؛ لذا كان متحررا الى حدٍ ما. كانت موسيقى {الناي السحري} نوعا ما ذات رمزية ماسونية، وشهادة مشرقة لمُثُل عصر التنوير؛ لكننا لا نعرف تفاصيل قناعات موزارت السياسية، ولا سجلات عن تشكيكه بجدية مواقف النبلاء في الحياة السياسية. كان رجلا اجتماعيا غالبية اصدقائه من الارستقراطيين، واذا نبذنا اساطير القرن التاسع عشر عنه؛ فكيف سينعكس ذلك على موسيقاه؟ 
كتب موزارت للناس؛ لأصدقائه ومحبي الموسيقى، وبذلك كان فنه (في اطار اجتماعي حميم) يهدف لاسعاد مستمعيه وعازفيه؛ بعرض جمالي لا يُضاهى. كان عموما رجلا سعيدا، أراد لفنه أن يُسعد الناس؛ وهذا هدف نبيل لكل فنان.