أراد أستاذنا الدكتور علي الوردي, وقد تشرفت بالتتلمذ على يديه عامي 57 - 59 في دار المعلمين العالية طبع كتابه عن (الأحلام بين العلم والعقيدة) عام 1957, بعد أنْ أتمَّ فصوله.
وكانت الضجة قائمة ضد الوردي بعد إصداره كتبه في الشخصيَّة العراقيَّة وخوارق اللاشعور وغيرهما.
وقد اضطر الدكتور الوردي الى تأجيل طبع كتابه الى العام 1959 ليستطيع أنْ يجد جواً فكرياً آمناً لنشره مع الملاحق المرفقة.
قسم الوردي كتابه الى مقدمة استعراضيَّة بيَّنَ فيها أسباب تأجيل إصدار الكتاب؛ لأنه لا يريد الاصطدام بالسلطة الملكيَّة آنذاك خشية تفسير بعض تحليلات الكتاب تفسيراً يمسها, ثم أشار الى تفسيرات عامَّة الناس للأحلام منتقداً الإيغال في هذا الشأن.
جاء الكتاب في فصول ثلاتة تتعلق بالنواحي الاجتماعيَّة والنفسيَّة والسلوكيَّة.
وقد طرح الوردي نظريات فرويد وأدلر ويونغ وسواهم وتطرق الى آراء الفكر البدائي الذي يخلط الحلم بالحقيقة والى تفسيرات العلماء الآخرين الذين يأخذون بنظريات نفسيَّة وسسيولوجيَّة, ووجد في الأديان البدائيَّة الأولى غير الموحدة ما يخلط الحلم بالواقع ويجعله مرادفاً أو تتمة له.
واقع الأمر أنَّ الأحلام تأخذ الكثير من التحليل عند الإنسان البدائي وفي الفكر الشعبي. وتأخذ الأحلام من هذا الفكر الكثير عند المنام, وبعضنا ينساها ساعة اليقظة وبعضنا يتذكرها غائمة أو بالتفصيل, لكنَّ الكثير منا يحرصُ على معرفة مدلولات تلك الأحلام العابرة في منامه.
ولشغف الناس في محاولة معرفة الخفي في الأحلام ومدلولاتها ظهر نشاطٌ فكريٌّ خاصٌ بهذا الولع هو نشاط التفسير والتحليل, واشتغل في هذا الباب الكثير من العلماء والمنجمين والمحللين والمشعوذين الدجالين الذي يستهوون العامَّة بتفسيراتهم.
ولنشاط الفلاسفة والمحللين وعلماء النفس في مجالات الأحلام الكثير, لكنَّ علم التفسير عند المسلمين يسمي الأحلام بالرؤى, وهناك الرؤى الصادقة التي تستحق التفسير والرؤى الكاذبة التي يفرضها الجان أو تكون مجرد هلوسات لا تستحق الوقوف عندها.
وقد قام كاتب هذه السطور بعقد فصلٍ مطولٍ عن الأحلام في كتابه (سحر الحقيقة) بلغ حجمه أكثر من مئة صفحة من القطع الكبير تناول فيها مفردة الأحلام لدى الحيوان والمعتقد الشعبي حول الحيوان وسلوكه وسلوك الناس حوله.
إنَّ ظهور الحيوان في الحلم يسبب الكثير من التحليل ويرتبط المثل الشعبي به بكثيرٍ من الطرائف والصور وسنستعرض هنا ما يخص المعتقد الإنساني برؤية (الديك) في الحلم وفي الواقع عبر السلوك الاجتماعي في الفكر الشعبي على سبيل التمثيل لا الحصر:
لقد اعتاد أبناء الريف الجنوبي والأوسط ذبح ديك قبل ذبح الأضحية أو العقيقة لموتاهم, ويطلق على هذا الديك لقب (المكود) أي أنه قائد الأضحية الى صاحبها في الدار الآخرة, وهناك من يذبح ديكاً ثانياً بعد ذبح الأضحية ويسمى عندئذ (السايج) أي السائق الذي يقود الأضحية الى صاحبها يوم الحشر, وهم في ذلك يبررون عملية الذبح وأسبابها.
ويعتقد بعض العامَّة أنَّ الديكة لا تصيح ليلاً أو فجراً إلا إذا سمعت – دون أن يسمع البشر- ديكاً في السماء فتقوم بإجابته!
وقد اعتادت بعض الديكة أنْ تصيح في وقتٍ من الليل بين العاشرة ومنتصف الليل وقد سمي هذا الديك (ديك الزعلانة) وتفسيره أنَّ المرأة التي غادرت بيتها لنزاع مع الزوج تتمنى العودة إليه بعد أنْ يزور الزوج بيت أسرتها ليصالحها, فتنتظر النهار بطوله وأوائل الليل مترقبة قدوم الزوج, فإذا ما صاحَ الديك فقدت الأمل في ذلك اليوم مترقبة يوماً آخر.
وفي تفسير الأحلام شعبياً إنَّ من يرى ديكاً فإنَّه يصادف مؤذناً في طريقه, وفي المعتقد الشعبي إنَّ الدجاجة إذا صاحت مثلما يصيح الديك وجب على صاحبها ذبحها لأنَّ إبقاءها يسبب الفقر لأهل الدار.
هذه التحليلات لا تخضع للتفسير العلمي الذي يورده ادلر في الحافز الاجتماعي ولا لرأي فرويد في الحافز النفسي ولا لسواهما, لأنها ارتبطت بالتفسير الشعبي الناتج عن تفسيرات متوارثة لم تخضع للفحص البيداغوجي, لكنها تظل تحليلات يهتم بها العامَّة ويجدون فيها ملاذاً ما لا يشاركهم الدكتور الوردي فيه ولا الفكر العلمي التحليلي الذي اعتمد عليه, لكنها مع ذلك – كما قلنا – تبقى مهاداً للتحليل النفسي الاجتماعي للظاهرة الشعبيَّة في تفسير الأحلام.