عبدالأمير المجر
يتداول العراقيون، مثلا شهيرا، قد لايعرف اكثرهم حكايته ، لكنهم يعرفون القصد منه .. المثل يقول ((المايعرف تدابيره حنطته تاكل شعيره)).. وخلاصة قصة هذا المثل هي؛ ان رجلا من تجار الحبوب في بغداد كان مولعا بتربية الخيول واقتنائها .. وكان هذا يتاجر سنويا بالحنطة والشعير، في المدن العراقية، فيعود بربح كبير.
في إحدى السنين، أخذ مقدارا كبيرا من الحنطة والشعير، وسافر إلى مدينة الموصل.
فوجد سوق الحبوب فيها كاسدة في تلك السنة، فباع الحنطة بثمن بخس. وأخذ المال وذهب إلى أحد الخانات ليقضي فيه ليلته، فرأى في الخان رجلا من تجار الخيول، معه حصان أصيل، يريد بيعه، فساومه على الثمن حتى اتفق معه، على أن يشتري منه الحصان بمبلغ يعادل ثمن الحنطة التي باعها في صباح ذلك اليوم .. بقي الرجل ينتظر بيع الشعير ليعود إلى مدينته.
ولكن سوق الشعير أصابه الكساد ايضا، فانخفض سعره، فبقي الرجل ينتظر تحسن حالة السوق، وهو خالي الوفاض من المال. فاضطر أن يقدّم لحصانه بعض الشعير كل يوم ليتقوّت به. واستمر الحال هكذا أياما طويلة ، حتى قضم الحصان كل ما كان مع الرجل من الشعير، أي اكلت الحنطة، المتمثلة بالحصان، الشعير! وكان للرجل مسبحة كهرمان غالية الثمن، باعها هي الاخرى، ليوفر مصاريف العودة إلى بغداد التي وصلها خائبا، مفلسا، آسفا. فتناقل الناس قصّته لتغدو مثلا
شائعا.
نجزم، ان دول منطقتنا، ينطبق عليها هذا المثل البغدادي تماما، ولو تتبعنا التاريخ القريب، لوجدنا كيف ان الامور تداعت تدريجيا لتصل الى ماوصلت اليه، والسبب هو التوجهات المتناشزة للانظمة والتي جعلتها مشتبكة ببعضها، ويكيد احدها للاخر، على امل ان يسقطه لكي يصنع نظاما مشابها له في بلده، وفي النتيجة، اخذت الانظمة تتساقط والدول تحترق، من دون ان تدرك ان الفاعل الخفي الذي وقف خلف اللعبة، منذ البداية، وجد في التناقضات العقائدية هذه وسيلة فريدة لتحقيق اهدافه، وليس اهداف تلك الانظمة، لان تحققها مستحيل، وهو ما ادركته اغلب الانظمة اليوم، لكن بعد فوات الاوان.
لقد كانت الطريق الى استعادة الحق الفلسطيني واضحة، وهي ان تتفق الانظمة العربية والاسلامية على موقف موحد، يمثل الحل الواقعي للقضية، ويدفع باتجاهه من خلال الضغط بالمحافل الدولية وباستخدام السلاح الاقتصادي وغيره، بعد ان تشكل كتلة موحدة لها هدف مشترك بعيدا عن متبنياتها
العقائدية.
وكانت هذه السياسة كفيلة بجعل العالم يتعامل معها باحترام ويحسب لها حساب، مثلما سيمهد لها الطريق نحو تكامل اقتصادي وامني، يجعل شعوبها في واقع حياتي وانساني افضل. ولم يكن هذا مستحيلا ولاصعبا، بل كان ممكنا ويسيرا لاسيما في النصف الثاني من القرن الماضي.
لكن الذي حصل هو ان بعض الانظمة انشغلت في كيفية جعل نموذجها هو السائد وعملت على فرضه باساليب متعددة على دول اخرى، فانتهت جميع تلك المحاولات بالفشل، ولكن بعد ان استنزفت قدرات الشعوب واضعفت دولها قبل ان يتغير شكل العالم مطلع التسعينيات، وينكشف الجميع امام الواقع الجديد وامام استحقاقاته القاسية. ومع هذا ظلت بعض الانظمة مستمرة في سياستها غير
الواقعية.
لاشك ان مؤتمر وارسو الاخير الذي حضرته نحو 60 دولة، تحت عنوان (تعزيز مستقبل الامن والسلام في الشرق الاوسط) ماكان ليحصل بعد سلسلة الخرابات التي عشناها، لولا ان دول المنطقة المتعادية قد فتحت ابوابها بشكل او باخر امام الاخرين للتدخل بشؤونها والعبث بأمنها.. فهل وضعت الانظمة هذه الامور في حسابها وهي تعمل ضد بعضها البعض منذ عقود، وبكل ما اوتيت من وسائل، وباسم تحرير فلسطين او تخليص هذا الشعب او ذاك من نظامه الاستبدادي؟!
لانعتقد ذلك، ولهذا حصدنا هذه النتيجة، التي جعلت حنطة الشعوب والدول تاكل شعيرها قبل ان تبدأ ببيع ما عندها من مقتنيات، لتعود الى نفسها خالية الوفاض كصاحبنا التاجر البغدادي وحكايته الطريفة!.