قد يُثير التواجد الامريكي في العراق اسئلة جيدة ومفارقة، حول جدوى هذا التواجد، ومدى علاقته الواقعية والامنية بـ(مراقبة الجيران)، لكن الاخطر ما في هذا التواجد سيتبدى من خلال تأثيره الداخلي وفي سياق قبوله أو رفضه من قبل القوى السياسية، والتي تنظر الى التوجهات الامريكية الجديدة بعين الريبة والشك، وتطالبها بالانسحاب الكامل، وعلى وفق الاتفاقية الامنية الموقعة بين البلدين، والتي نصّت على انسحاب جميع القوات الامريكية من الاراضي العراقية بتاريخ 31/ كانون الاول 2011. وهذا الانسحاب كان جزءا من (خطاب) التعاون، ومن الرغبة العميقة في احترام سيادة العراق، وفي اشاعة الاستقرار والأمن، ومساعدته لتجاوز كثير من مشكلاته الاقتصادية والسياسية.
قد يكون حديث (العودة) الأمنية الامريكية الى العراق مرتبطا بالحديث عن التحديات الامنية عام 2014، وبعد سيطرة داعش على عديد المدن العراقية، وهو مبرر في السياق الاطاري لتلك الاتفاقية، لكن المعطيات السياسية لهذه العودة هو ما يُثير القلق، ويدفع عديد القوى السياسية الى النظر بقلق الى خطورة تداعيات ذلك على المستوى السيادي أو على مستوى عدم توريط العراق بصراع الخنادق، أو وضع الارض العراقية وكأنها ساحة لمعركة قادمة، أو لتنفيذ مآرب اجندات اقليمية أو دولية، ولعل التحركات الامريكية الاخيرة تؤكد بعضا من هذه الخيارات، لاسيما أنّ هزيمة داعش في العراق وسوريا، وأقلمة الحلول السياسية في المنطقة بالتعاون مع الدور الروسي، هو ما يدفع الولايات المتحدة للبحث عن تبريرات أخرى للعودة العسكرية، أو للعودة بمعناها الأمني، وهو ما أكدته تصريحات الرئيس الامريكي رونالد ترامب، بأنّ التواجد العسكري الامريكي في العراق سيكون لمراقبة ايران.
الخنادق الخارجية والداخلية
تصريحات الرئيس الامريكي وبهذا الشكل العلني هو ما أحرج الادارة السياسية العراقية، والتي تتطلب مقاربة أمنية وسياسية في الآن معا، إذ إن التواجد الامريكي، وبالاعداد المعلنة سيكون سببا للارتباط بصناعة نوع من(الخنادق الخارجية) والتي ستكون وظيفتها أمنية وسياسية وذات مدى طويل، لاسيما في علاقته مع الملفين الامنيين في سوريا وايران، وبما يجري من مواقف إزاء معالجة ملف الجماعات الارهابية على الحدود السورية العراقية وفي الشمال السوري.
تحويل هذا الموضوع الى موقف وطني جامع هو الرهان الذي ينبغي الالتفاف حوله، وعلى وفق ما تتطلبه مصالح العراق في أمنه السيادي واستقلاله، وفي علاقته مع جيرانه، لأن الدخول في لعبة الخنادق الخارجية سيكون دافعا لانتاج (خنادق داخلية) وبتوصيفات متعددة سياسية وعسكرية وثقافية، والتي ترى في السياسة الامريكية الجديدة وجهاً آخر لسياسة التدخل في شؤون العراق، وفي الاضرار بمصالحه وبهويته الوطنية، وربما ستكون سببا دافعا في اشعال حروب اقليمية من الصعب السيطرة على تداعياتها.
إنّ مطالبة العراق بتوضيح الموقف الامريكي، وضرورة مراعاة ظروف العراق الداخلية، تعدّ من الامور التي لا تهاون معها، وهذا ما يعني مطالبة الحكومة العراقية بتوضيح التباسات الأمر، والقصد منه، حتى لا يتحول الامر الى (حرب) خنادق والى (حرب) اعلامية لها حساباتها، ولها تأثيرها في الشارع العراقي، فضلا عن ضرورة النظر بـ(عقلانية) الى ما يجري، واعتماد المعالجات الرسمية، وفي سياقها الدستوري والمؤسساتي، بعيدا عن الانفعالات والمواقف المتشنجة، لأنّ ما يجري في المنطقة من تحركات وسياسات، ومن مواقف متغيرة يدعو الى خيار الموضوعية والحكمة والى مواجهة كل ما يهدد سيادة العراق واستقلاله بجهد وطني جامع، وباتجاه تعزيز دور العراق التوازني كقوة فاعلة ومحركة، لضبط ايقاع الصراعات المتحملة، والى استثمار علاقات العراق الايجابية مع دول المنطقة، وعلى نحوٍ يُبعدها عن تجاذبات الصراعات، واعادة انتاج المظاهر الغامضة لجماعات العنف والارهاب والتكفير.