محمد عبد الجبار الشبوط
كنت في هولندا في 19 شباط من عام 1999 حين اتصلت بي مراسلة وكالة الصحافة الفرنسية طالبةً تعليقي على “مقتل السيد محمد الصدر بحادث سيارة”، كما قالت. قلت لها على الفور: السيد الصدر لم يمت في حادثة سيارة، انما قتله صدام حسين.
كان هذا واضحا رغم بعد المسافة بيننا وبين السيد الصدر وحركته في العراق. وكان التوقع المستقبلي لهذه الحركة يحوم حول احدى نتيجتين: اما الصدر أو صدام. كان الاسلوب الذي نهجه الصدر في التصدي للطاغوت يختلف عن النهج الذي سار عليه الصدر الاول، رغم انه يستقي الهامه من كلامٍ للصدر الاول، بيّن فيه ان وظيفة المرجع في حال وقعت الامة في اسر الطاغوت هي تحريرها من عبودية الطاغوت.
قال الصدر الاول:”واما خط الخلافة الذي كان الشهيد المعصوم يمارسه، فما دامت الامة محكومة للطاغوت ومقصية عن حقها في الخلافة العامة فهذا الخط يمارسه المرجع ويندمج الخطان حينئذ -الخلافة والشهادة-في شخص المرجع، وليس هذا الاندماج متوقفا على العصمة لان خط الخلافة في هذه الحالة لا يتمثل عمليا الا في نطاق ضيق وضمن حدود تصرفات الاشخاص. وما دام صاحب الحق في الخلافة العامة قاصرا عن ممارسة حقه نتيجة لنظام جبار فيتولى المرجع رعاية هذا الحق في الحدود الممكنة ويكون مسؤولا عن تربية هذا القاصر وقيادة الامة لاجتياز هذا القصور وتسلم حقها في الخلافة العامة.”
وهذا ما قام به السيد الصدر بالضبط. فلم يرفع السيد شعاراتٍ او اهدافا تعجز الامة عن تحقيقها، لكنه عمل بدأب على تحقيق هدف يستطيع هو ان ينجزه بدعم الامة، وهو تحرير الامة تدريجيا من سلطة الطاغوت، من دون المجاهرة بهدف اسقاطه، وافراغ سلطة الطاغوت من قاعدتها الشعبية بسحب هذه القاعدة الى ولاية الفقيه. وبعد ان تحقق للسيد ذلك اعلن نفسه وليا للامر على المؤمنين الذين شكلوا امة حرة، متحررة شعوريا من سلطة الطاغوت المغتصبة. وتمثلت رمزية هذا التحرير باقامة صلاة الجمعة بامامة الصدر، خلافا لاجتهاد جمهرة كبيرة من الفقهاء الشيعة. فقد ذكر صاحب “جواهر الكلام” ان صلاة الجمعة لا تجب، او لا تصح، الا بشروط اولها “السلطان العادل او من نصبه”.(جزء 11ص 151). ولم يكن صدام سلطانا عادلا، ومع ذلك فقد اقامها الصدر، لانه اعتبر نفسه يقوم مقام “السلطان العادل”. وكان صدام مطلعا على مثل هذه المسائل الفقهية، كما اخبرني سكرتيره الصحفي صباح سلمان، وعليه فقد ادرك معنى اقامة صلاة الجمعة بامامة السيد الصدر. كانت الخطوة اعلانا ضمنيا بعدم مشروعية سلطة صدام، وتاكيدا لولاية الصدر على الامة. وكان هذا كافيا لان يقدم صدام على قتل الصدر. وهذا
ما حصل.
كان الصدر ينطلق من رؤية معمقة واسعة شمولية لحركة التاريخ تلك التي طرحها في موسوعة الامام المهدي التي شكلت فتحا كبيرا في البنية الفكرية لاتباع اهل البيت. فقبل الموسوعة لم يكن هؤلاء يملكون رؤية واضحة للتاريخ، وكان اعتقادهم بموضوع الامام المهدي غيبيا، لكن السيد الصدر حوله الى “عقيدة في التاريخ”، تقف شامخة امام محاولات سابقة لرؤية التاريخ كالتي وضعها ماركس
وانجلز.
ولئن تحول الصدر الى ارث سياسي عظيم، فان رؤيته التاريخية مازالت حبيسة “الموسوعة” وهي تنتظر من يحررها ويحولها الى ثقافة شعبية تتسلح بها القاعدة الجماهيرية الواسعة من المؤمنين بالخط الصدري، بل غيرهم ايضا.