وطن مؤطر بالمنفى

ثقافة شعبية 2021/07/11
...

كامل الركابي
 
للمنفى مستويات مختلفة في تأثيراته على الشاعر المغترب، اما أن يسحقه ويسجنه في الماضي او يطلقه في افق يتسع بلا حدود، ولكن في هذا الافق المترامي الأطراف هنالك خيط من اللغة والذاكرة يعود ليتشبث بأعواد الطين الاول ومائه وسمائه، يتجاوز الشاعر المغترب مفهوم الوطن - الولادة الى وطن اعمق واكثر انسانية، وبهذا يتخلص تدريجياً من آفة الحنين التي ستظل تهذب مفرداته حد اختزاله.
الشاعر في المنفى قد لايفرق بان منفاه هذا كان إجبارا للإفلات من عنف فاشي ام اختيارا لفتح نوافذ جديدة في بيت الشعر المغلق على ذاته والمعتم الحياطين، وما ان تبدأ شمس المعرفة والتجارب الانسانية تشرق على ذلك البيت موضوعا وشكلا حتى ليمتلئ كاس الحنين بصورة غائمة: الوطن وتنهال الآلاف من صور الطفولة والعشق والسياسة والخسارات. 
الشاعر الذي كان مغتربا في وطنه، هل يجد الخلاص في منفى بعيد ام يتناسل الاغتراب في الوطن الى اغتراب في المنفى ايضا؟. 
لا فكاك من ذاكرة الوطن الام حتى لو غدا المنفى وطنا، فالروح تظل ترفرف دائما للبعيد، وقد يقتلها الشغف الى بقعة صغيرة من  ارض طُرد منها.
مظفر النواب في تجربة المنفى ترافقه حمامات الوطن للبيت ويسمع غناءها كل صباح وهو يحلم:
ردينه لهلنه هدومها تنگط محبة وطين
وقد كانت باكورة الاغتراب الاول الجزائر ولم يتخل عزيز السماوي عن خيوله وصهيلها وسيوفه ووميضها، وعن الفرات وشموخ الرايات، وظلت قصائده تنزف عذاباتها في جسد الذاكرة المتشبثة بجذور الوطن..
مجنون هذا الجسم غنّه العراقه 
ومابرد فد يوم هذا الجسم!
وهو اذ يرتجف ويبكي ويهتز من الاعماق عندما يقرأ قصائده، فمن غير المستغرب للاصدقاء انه يناجي الوطن وهو يتشكل في روحه بصور مختلفة واقساها صورة الغياب.
وعندما عاش في لندن المنفى الثاني لم يكتب عن مقهى لندني او شارع او شاعر او مدينة او مشاهد حياتية، هناك كتب عن البصرة واستعرض في بانوراما عراقية النخيل والمشاحيف والشعراء والفنانين وبهذا يصح القول: كان جسمه في المنفى وروحه في العراق
شعراء العامية اغلبهم على تلك الصورة: وطن مؤطر بالمنفى!.