رغم كل ما جرى ويجري في البلاد، فإن الحياة تظل تتجدد، وكأنها تفعل ذلك في زاوية لا تراها الحروب ولا الحصارات ولا الموت ولا الفقر.
أذكر ايام السبعينات، عندما تلألأ لبرهة قصيرة أمل كبير في العيون، في بحبوحة من العيش والأمل، قبل ان تتوالى الازمات والكوارث متسارعة: انهيار "الجبهة الوطنية والتقدمية" والقمع الذي رافقها، الحرب الطويلة لثمانية اعوام مع ايران، غزو الكويت، تحطيم البنية الاساسية، قصة "القطع الكهربائي" التي ابتدأت في عقد الحصار الذي تحول فيه الفقر والفساد الى مظاهر شائعة، بنية فوقية مهشمة على اطلال بنية تحتية
مهشمة.
الاأرامل، الايتام، المعوقون، والضحايا الذين ذهبوا في نهر النسيان الابدي.
وبعد سقوط النظام السابق: عودة المعارضة الى الحكم، الحرب الطويلة مع الارهاب، انتشار النهب والفساد على نطاق واسع، وعود كثيرة دون تطبيق، وآمال بين ايادي الناس الصاعدين على هضاب تضحياتهم الكبيرة.
المفارقة ان الانجاب ظل اكثر من الابادة! وأعداد اضافية من البشر "ضخها" الزمان الى مسرح التاريخ، اجيال جديدة، تتوزع بشكل عام بين افكار جامدة، او توهان لا فكر فيه، رغم ان الجهل والنزوع الى العنف عنصر مشترك بين هؤلاء
واولئك.
تُرى اي القوائم او الارشيفات ظلت من كل الاعاصير المدمرة؟ كم من القتلى او الشهداء او الضحايا او الارامل او الايتام او المبتورين؟ "مؤسسة التاريخ" لا تحمل ارقاما، قدر ما تحمل من الدموع والابتسامات، والاخيرة ما أشحّها، والاولى ما
أغزرها.
لكن مع هذا، ورغم هذا، ظلت الاجيال الجديدة "تنبجس" الى مسرح الحياة، مثلما ينبجس نفط هذه الارض الى سطحها حتى عندما يكون منسيا. ورغم الجهل، والتفكك الاجتماعي والنفسي، فإن القادمين الجدد، كما هو الحال دوماً، ينظرون الى ما سيأتي من الزمان لا الى ما مضى.
واذا ما التفتوا الى الوراء، فلبرهة لا اكثر، عندما تزدحم الاسئلة في رؤوسهم، او عندما يظل من الاسماء التي جرفها نهر النسيان علامة تشد انتباههم على درب
المسير.
الخبر الجيد - كما يقال - في كل هذا، ان هؤلاء يريدون شيئا من حياة معقولة. وسواء عرّجوا على نهر النسيان أم لم يفعلوا، فإن ما ينغص عليهم كل يوم وكل عام يظل ماثلا: المطلوب حياة معقولة فيها من الخير ما يكفي للكرامة.
وسيظلون يطلبونها الامس واليوم وغدا، ما دامت افاق مستقبلهم لا تزال مغلقة او شبه مغلقة.