برازخُ ملغومة

آراء 2019/02/23
...

محمد الحداد
 

هما كائنانِ متناقضانِ أبداً..يحملُ كلٌّ منهما معهُ صفة تغايرهِ الصارخ لأنهما يغترفانِ أساساً من نهرينِ لا يتشابهان..حروبُهما أزلية ومفتوحة ومعلنة دائماً فأزيزُ رصاصهما المتراشق صوبَ معسكر الآخر يكادُ لا يعرفُ لغة الصمت أبداً..لقاؤهما انتحار..وتباعدهما انفجار..فلا جسورَ بينهما ولا معابر..لأن مناخاً يجمعهما معاً يظلُّ مُلبّداً مسبقاً بغيومِ الطعنِ والتخوينِ وعدمِ الثقة..وحتى البرازخ التي تفصلُ بينهما تظلُّ محفوفة أبداً بالمخاطرِ والفِخاخ.
من منظارٍ سايكولوجيًّ محض بوسعي أن أتناولَ تلك العلاقةِ الأزليةِ الملتبسة بين المثقف والسياسي وكأني أعني مخلوقين من كوكبين متغايرين..إذ إن التوترَ الدائم بين طرفي هذهِ المعادلة يشبهُ بركاناً مستتراً لا يشي ظاهرهُ بما يستبطنهُ لكنهُ في الحقيقة يغلي في الخفاءِ على مهلٍ ويظلُّ معرّضاً للانفجار في أيةِ لحظةٍ بحِممِ ثأرهِ الكامن في الأعماق لينسفَ معهُ كلَّ مشتركاتٍ مفترضة ويحرقَ تالياً أية خرائط لقاءٍ محتملة يمكنُ أنْ تضمهما معاً في يومٍ من الأيام.
وانطلاقاً من هذا التوصيف المتشائم سيبدو الدخولُ إلى هذا الميدان الساخن يشبهُ تماماً مجازفة المرور بحذرٍ فوقَ حقل ألغامٍ مُدمّر..كأن فيها استحضاراً دائماً لاشكاليةٍ أزلية لكنها متجددة أبداً توشكُ أن ترسمَ للمشهدِ صورةً قاتمة جداً تعكسُ صراعاً أزلياً فارقاً إن كان على المستوى التنظيري الجدلي أو وسط ميدان الفعل العملي.
في ما يتعلق بالمثقف فلم يتسنَ لهُ حتى اليوم "في ظل تلك الأجواء العاصفة" أنْ يمتلكَ أدواتِ التأثيرِ الفاعلة إلتي تؤهلهُ أن يُمسكَ بيديهِ باستقلاليةٍ تامة دفة تلك العلاقة المضطربة التي تربطهُ بالسياسي ويوجهها بجدارةٍ احترافيةٍ صوبَ أهدافهِ وأحلامهِ وطموحاتهِ التي يتحتمُ عليهِ أن تكون متسقة قطعاً مع أهدافِ وأحلامِ وطموحاتِ
الجماهير..
ولم ينجح المثقفُ أيضاً حتى اليوم في تعريةِ أسمالِ الزيف الكثيرة التي يرتديها السياسي أو خلع أقنعته المتعددة وفضح وجهه الحقيقي أمام الجميع..بل أنهُ لم يمتلك إلى الآن فرصة حقيقية كاملة تمكنهُ بجرأةٍ وشجاعة من تحطيم زجاج مرآة أنا السياسي التي لا يكادُ يرى فيها إلا صورته فحسب..تلكَ المرآة النرسيسية التي ستظل تحولُ بينهُ وبين جميع فئات الشعب.
على ضفةٍ أخرى..مخملية وباذخة يطلُّ السياسي علينا بهندامهِ الأنيق متأملاً المشهدَ كلهُ من أعالي برجهِ العاجي الناعم متمترساً بحصونِ سلطتهِ المنيعة وفي رأسهِ حساباتٌ مغايرة تماماً..فهو يؤمنُ ابتداءً أنَّ الحياةَ محضُ لعبةٍ افتراضيةٍ كبرى تشبهُ ساحة حربٍ دامية لا مكانَ للعواطفِ 
فيها..
كما أن لغة السياسة لقنتهُ أيضاً دروساً ثمينة تعلّمَ منها أن السلطة أدسمُ المغانم وفي خسارتها أسوءُ المغارم..لذا فمنطق السياسة هذا سيظل يفرضُ عليهِ دائماً أن يتعاطى مع الواقع بوصفهِ مِضمارَ قتالٍ بربريٍّ قديم مَنْ يدخلهُ مجرداً من أسلحةِ البقاء فسيكونُ فيها مقاتلاً فاشلاً يُعجّل في موتهِ وإفراغِ الساحة للآخر..وللحقيقة فقد منحنا بعضُ الزعماء والسياسيون أكثرَ من مُبررٍ لإقناعنا بواقعيةِ تلك الصورة المُرعبة..وقد أفضى ذلك إلى نتيجةٍ صادمة رسّخت في الذهنيةِ الشعبية العامة صورةً سلبيةً يائسة أخرى مفادها أنَّ أهمَّ ما قدمهُ السياسيون لشعوبهم من هباتٍ وأفضلَ ما حققوهُ من انجازات هو حروبهم وخلافاتهم وصراعاتهم فيما بينهم 
فحسب!
وبالعودةِ إلى علاقةِ المثقف بالسياسي فقد كانت التظاهراتُ المليونية الكبرى التي أشعلت الجماهيرُ الغاضبة نيرانَها إبان ما سُميَ حينها بثوراتِ الربيع العربي أهمَّ اللقاءاتِ الساخنة التي جمعتْ بين كلا الطرفين ووضعتهما رغماً عنهما على محكِّ الاختبار وكشفِ المواقف والنوايا وأوقفتهما وجهاً لوجهٍ أمام الجميع كخصمينِ يتصارعانِ داخلَ حلبةٍ مغلقةٍ صغيرة في مباراةٍ مصيريةٍ 
ساخنة..
لقاءٌ كهذا تكررَ معنا أيضاً أثناء التظاهرات الكثيرة التي شهدها العراق قبلَ عدة سنوات ولاتزالُ بعضها مستمرةً حتى الآن في أكثر من محافظة على خلفيةِ استشراءِ الفساد الضارب في البلاد ابتداءً من مفاصلِ العملية السياسية والمحاصصة وسوءِ استغلال السلطة وليس انتهاءً بتردي الأوضاع المعيشية للمواطن ونقص الخدمات وما إلى ذلك..وفي كلتا الحالتين فقد كانت ثمة ضفتان لا ثالثَ لهما ألزمتْ طرفي الصراع أن يختارا منهما ضفةً واحدةً كي يقفوا عليها..إما ضفة الشعب أو ضفة الحكام..ولأن المثقفَ يمثلُ أهمَ شرائح الشعب وجزءاً نخبوياً أصيلاً منهُ فقد كان من البديهي أن يختارَ ضفة الشعب ويقفَ في صفوفهم..خاصة أن خصمهُ الأزلي المزمن يقفُ بشكلٍ بديهيٍّ أيضاً في الضفةِ المغايرة على الرغم من عِلمِ المثقف بخطورةِ خيارٍ كهذا.. وقد رأينا كيف أنهُ عرّضَ حياتهُ ومستقبلهُ للهباء ودفعَ ولا يزالُ يدفعُ أثماناً باهظة من أجلِ شرف ذلك الموقف..رغم أن كثيراً من المثقفين أيضاً اختاروا البقاء إلى جانب الحاكم السئ أو السياسي الفاسد فخسروا رصيدهم الشعبي إلى الأبد.
بالتأكيد لم يفهم الزعماء والسياسيون هذهِ المواقف الشعبية الرافضة لوجودهم الأزلي المتربع فوق الكراسي والعروش كما أنهم فسّروا مطالبة الجماهير برحيلهم بأنها محضُ محاولاتٍ رخيصة وردودُ أفعالٍ غير مسؤولة تَرجمتْ سلفاً وبشكلٍ مغرض عُقداً قديمة وأحقاداً دفينة تراكمتْ في المخيالِ الشعبي العام لعقودٍ طويلة والغاية منها لا يعدو كونهُ استغلالاً للفرصِ التي سنحتْ لهم في غفلةٍ من الزمن من أجل الانتقام وردِّ الثأر فحسب.
يبقى أن أغربَ ما يمكنُ أن تقدمهُ لنا تلك المعركةِ الساخنةِ بين المثقف والسياسي من مفاجآت هو لقاء سلمي يشذ عن كل تلك البديهيات..إذ أن بوسعِ السياسة نفسها "لاغيرها" بألاعيبها الماكرة وفنونها الساحرة أن تحتالَ إذا شاءت على قواعدِ هذهِ الحرب فتسهّل للغريمينِ الأزليين انتهاكَ أسوار البرازخ الملغومة بينهما وعقد لقاءٍ نادرٍ في منتصفِ الميدان الساخن..لقاءٌ مفترضٌ كهذا يظل مشروطاً برغبةٍ صادقة لكلا الطرفين في تنقيةِ الأجواءِ المضطربة بينهما وتقريب المسافات وبالتالي انعكاس ذلك على حساباتِ الاستقرار السياسي والأمني..لكن التجاربَ السابقة أثبتتْ أن لقاءً كهذا كان ينتهي دائماً بالفشلِ الذريع وسيظلُّ مطعوناً من الجميع بسهامِ الشكِ والريبة بل إن أيَّ اقترابٍ قادم لأحدهما صوبَ الآخر سيُتهمُ أيضاً باشعالِ نيران الثأر واشاعةِ دخان 
الخيانة. 
مهما بعدت المسافة بين معسكري السياسي والمثقف فستظلّ ملغومة أبداً بشبهاتِ الاقترابِ بقصدِ التربصِ والقنصِ ومطعونة بخناجرِ المماحكاتِ التي لا يرادُ لجمرها أن ينطفئ أبداً مهما غطاها الزمن برمادِ النسيان..لذا في ظلِّ علاقةٍ اشكاليةٍ كهذهِ يظلُّ من الأسلمِ للجميع ألا يلتقي الطرفان أبداً حتى وإن جمعتهما أرضٌ واحدة..فلا نيران عدائهما ستبردُ يوماً ولا أكداس عتادهما سينفد..كيف وقد عَبأ أسلحتهما سلفاً من ذخيرتهِ المسلحة تاريخٌ طويلٌ مدججٌ بسِفرٍ حافلٍ بالموتِ والاقصاءِ والسجونِ والدماءِ من دونِ انتصارٍ حاسمٍ لأيٍّ من الطرفين.