د. قيس العزاوي
يبدو ان البحث في الدولة الوطنية في تاريخنا العربي وحاضرنا هو نوع من البحث عن مجهول او البحث في المجهول ، ويجوز حتى ان نقصد المعنيين لوصف عملية غياب او تغييب الدولة الوطنية بمعناها الحقيقي المعاصر في تراثنا السياسي . ولن يجدي البحث عن هذا المجهول في تاريخنا، أو البحث فيه في وقتنا الحاضر لأننا لن نجده، فقد بقي وهما يؤكد شبهة وجوده لفظياً وليس عملياً في حياتنا السياسية. فقد غابت الممارسة العملية لمفهوم الدولة الوطنية عن الحياة السياسية العربية. ولم يكن امامنا ونحن نبحث عنه او نبحث فيه إلا استرجاع ما عرفته المجتمعات الاوروبية منذ القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وحتى يومنا هذا للاقتداء بتجربتها في ميدان مأسسة الدولة
الوطنية.
تنطوي مأسسة مفهوم الدولة الوطنية في التاريخ الغربي وحاضره على مهمة تحويل التنظيم السياسي للمجتمع الى بنى ومضامين قانونية ترسي نظاما متكاملا، بمواصفات اهمها احتكار قوة الاكراه القانونية، واقامة سلطة سياسية واحدة تدعمها طبقة اجتماعية مسيطرة، والعمل بفصل السلطات والتداول السلمي للسلطة بالانتخابات.
وتطرح هذه الدولة نفسها كدولة للمواطنين كافة دون تفرقة باجناسهم ودياناتهم وطوائفهم.. أي كل الذين تجمعهم وشائج الانتماء وروابط القربى وذكريات النشأة في الوطن الواحد. وقد يكونون على لغة وثقافة واحدة او لغات وثقافات متعددة تتعايش في اطار التنوع على قاعدة الوحدة الوطنية. فالوطنية تعبر عن مشاعر سياسية انفعالية مصطبغة بعصبية تدفع الفرد للتضحية بالنفس دفاعاً عن الجماعة الوطنية..
وقد عرف التاريخ الغربي مصطلح الدولة الوطنية ابان الثورة الفرنسية، حين ارتبطت الوطنية وقتها بالحرية وبما سمي وقتذاك بالافكار الثورية الجديدة.
وكانت تلك فكرة استخلصها وقال بها قبل الثورة جان جاك روسو (1712 - 1778) الذي أكد على استحالة تحقق الحرية في مجتمع مستعبد.
هكذا فعل قبله بقرنين من الزمان نيكولا ميكافيلي (1469-1527م) حين استبعدَ الحرية عن بلادٍ لا تكون شعوبها مستعدة لتقديم التضحياتِ اللازمةِ لأوطانها..
ولا تتطابق الدولة التي عرفها التاريخ الروماني قبل نصف قرن من ولادة المسيح بقيام جمهورية افلاطون. كما لا تتطابق ايضاً الدولة الغالبة التي عرفها التاريخ الاسلامي مع مواصفات الدولة الوطنية، وبخاصة الدولة الوطنية الحديثة التي برزت ملامحها في القرنين السابع عشر والثامن عشر في اعمال مفكرين كبار مثل توماس هوبس وجون لوك . نضجت مستلزمات الدولة الوطنية بإعتماد فكرة العقد الاجتماعي لروسو وتبنتها الثورة الفرنسية..
وفكرة العقد الاجتماعي ليست جديدة في تاريخنا الحضاري العراقي، فقد كانت الشرائع السومرية والبابلية نوعا من انواع التعاقد ما بين السلطة والمجتمع، تعاقد يعبر عن الارادة العامة للسكان تسنه سلطة معترف بسيادتها وسطوتها تنشر شرائعها في الاماكن العامة، وتستخدم القوة لتطبيقها على السكان كافة لحمايتهم او لعقابهم بهدف تنظيم المجتمع على اسس ثابتة ومعلنة.
لذلك بدأت باصدار عدد من الشرائع والقوانين قبل الميلاد بقرابة الفين عام مثل : شريعة اشنونا وشريعة اورنوما وشريعة بيت عشتار وقوانين حمورابي التي ضمت282 مادة قانونية. لقد عرف العرب فكرة العقد الاجتماعي في عصر الجاهلية متمثلاً بـ"حلف الفضول" عندما اتفقت خمسة افخاذ من قبيلة قريش عام 590 م في مكة على أن لا يظلم أحد في مكة إلا ردوا ظلامته. وتعاهدوا على قبول المجتمع المكي بالتعددية واعلان حمايتهم لكل ساكن وعابر بمكة ورفض التفرقة لاسباب تتعلق بالجنس او الفكر او المعتقد الديني. وقد تكررت فكرة التعاقد في العصر الاسلامي عند إبرام النبي محمد(ص)لـ "صحيفة المدينة" عام 623م في المدينة المنورة. تلك الصحيفة التي اعتبرها المؤرخون بمثابة أول دستور للدولة المدنية في تاريخ البشرية، تهدف لتنظيم العلاقات وتطويرها بين المسلمين واليهود وعبدة الاوثان وجميع الفصائل الاخرى وتمكينهم من التعايش وضمان حرياتهم
لاعتقادية.
ومن الواضح أن الدول التي عرفها تاريخنا الاسلامي لم تكن قائمة على المبادئ الوطنية بل على الروابط الدينية وفقاً لمبدأ وحدة الامة الاسلامية، وقد كان هذا حال الدول الغربية الدينية قبل عصر القوميات..
اما في وقتنا الحالي فلسنا بحاجة الى ادلة لكي نلاحظ غياب التطبيق الميداني لمقومات الدولة الوطنية وان وجدت تنظيرياً.
لم يكن للعرب وطن جامع على الرغم من الفضاء الجغرافي العربي المحدد الذي به يسكنون. ولم يكن لهم دولة وطنية بالمعنى الحديث حتى على جزء من هذا الوطن، لاسباب سبق ذكر بعضها، فهذا "الوطن العربي" كيان نظري افتراضي مجزأ الى دول ناقصة السيادة تدعي التمسك بوطنية وقطرية افتراضية هي الاخرى، ولم يبق لها من سيادة سوى سيادتها الاستبدادية على شعبها فقط وليس على وطنها أو على ثرواته.
ولم تجمع هذه الدول القطرية المصالح المشتركة وان جمعتها الثقافة واللغة والتاريخ المشترك وحتى الدين لكون الاسلام دين الاغلبية .لم تجمعها تلك كلها في نظام قومي اتحادي أو حتى نظام امني مشترك..
ولم تتكون على ارض الوطن العربي الافتراضي سوق اقتصادية مشتركة على غرار ما جرى اوروبياً، على الرغم من الدعوات اللفظية الرسمية، وذلك لأن صناعة قرارها القومي بقي خارج حدودها متناغماً مع
مصالح القوى الكبرى .
دولنا الحالية تفتقر للبنى القانونية والمبادئ اللازمة لتشبيهها بالدول الوطنية..اما الدساتير التي اصدرتها اغلب الدول العربية، فقد بقيت حبراً على ورق، طالما بقيت السلطة التنفيذية فوق الجميع، وتتحكم عملياً بالسلطتين التشريعية والقضائية. لقد أخل هذا الأمر كليا بالقوانين التأسيسية للدولة الوطنية الحديثة ذات السيادة التي تفصل ما بين السلطات الثلاث وتعمل على توازنها..
ولأن فاقد الشيء لا يعطيه، فقد بقينا محرومين من التمتع بمأسسة دولنا، وبالتالي حرمنا من قيام دولتنا الوطنية مكتملة السيادة.
وتضاف الى كل تلك المحن اختلاف اطراف الجماعة الوطنية وازدياد الفرقة باستشراء عصبيات الهويات الفرعية على حساب الهوية الوطنية..وذلك يؤكد ان هناك شبهة لوجود الدولة الوطنية العربية لسبيين: الاول أن وجود الدولة مرتبط بوحدة السلطة ولكن وجودها عربياً مرتبط بقوة الاستبداد. والثاني أن القانون الدستوري ينزع عن الدولة شرعيتها حين تفشل في تأدية واجباتها الوطنية بتلبية احتياجات مواطنيها. الدولة الوطنية العربية اذن شبهة
فحسب !!