قصة اختفاء مخطوطات لوي فرديناند سيلين

منصة 2021/08/12
...

 ترجمة وتحرير: 
   كامل عويد العامري
كان يصرخ بصوتٍ عالٍ، ولم يتوقف لويس فرديناند سيلين حتى أنفاسه الأخيرة، حيث توفي في العام 1961، عن تكرار ذلك: في العام 1944، عندما كان قد فرَّ على عجلٍ إلى ألمانيا النازية مع المتعاونين المتطرفين، اقتحم اللصوص شقته في مونمارتر وسرقوا مخطوطات ضخمة معظمها غير منشور. {لم يتركوا لي شيئا، سرقوا رواية (الحرب) غير المكتملة وألقوا بها في قمامة شارع جونو}.. هؤلاء {النهابون} سرقوا أيضا مخطوطة (إرادة ملك كروغولد)، قبل أيامٍ قليلة من وفاته. كتب في روايته ريجودون: {لقد أخذوا مني ما يكفي، لقد سرقوني بما فيه الكفاية، سلبوا كل شيء! ياه!، أريد أن أستسلم!}.
كنز ورقي
منذ العام 1944، حاول كتاب سيرته تعقب أثر هذا الكنز الورقي. استجوبوا الناجين من أثر التحرير. قابلوا أحفاد {أجهزة التطهير} الشهيرة. راقبوا أدنى دليل في المزادات. من دون جدوى. لقد اختفت المخطوطات. إلى الأبد وهكذا بقيت أسطورة سيلين، التي تعدُّ، مع {رحلة في أقاصي الليل} و{ثلاثية ألمانية} بعد الحرب - من قلعة إلى أخرى، والشمال وريغودون - عملاقًا أدبيًا في القرن العشرين. بينما بقيت أيضًا أسطورة سوداء، وهي أعماله الأدبيَّة الرهيبة المعادية للسامية – مثل (مدرسة الجثث) - وأخيرًا، صورة {متشرد ميدون} حيث انتهت حياته في منزله في الضواحي الغربية لباريس وهو يشتم عالمًا كان يرعبه.
في 8 تشرين الثاني (نوفمبر) 2019، يبدو أنَّ وفاة الراقصة السابقة لوسيت ديستوشيس، أرملة الروائي عن عمر يناهز 107 أعوام، وضعت حدًا لأي أمل في العثور على هذه المخطوطات، لكن هذا الاختفاء، على العكس من ذلك، سيعيد تشغيل التاريخ بطريقة غير متوقعة.
فبعد بضعة أشهر، اتصل رجل سراً بالمحامي الباريسي إيمانويل بييرا، المتخصص بعالم النشر. كان المتصل يدعى جان بيير ثيبودا.  الناقد الدرامي، مؤلف العديد من الأعمال المسرحية، عمل لفترة طويلة في صحيفة الليبيراسيون، وحتى قبل مغادرته في العام 2006. لا يُعرف عنه أنه من المهتمين بسيلين، لكنْ ما كشفه في ذلك اليوم للسيد بيرا كان مذهلاً:
منذ سنوات عديدة، اتصل بي أحد قراء ليبراسيون وأخبرني أنه يريد إعطائي بعض الوثائق. 
وفي يوم اللقاء، وصل بأكياسٍ ضخمة تحتوي على أوراق مكتوبة بخط اليد. كان خط يد سيلين. سلمني إياها بشرط عدم الإعلان عنها قبل وفاة لوسيت ديستوشيس، لأنَّه من اليسار، ولم يرغب في {إثراء} أرملة الكاتب.
متى تم هذا التبرع؟ يؤكد تيبودا: {منذ أكثر من خمسة عشر عامًا، كنت آنذاك أعمل في الليبراسيون}، يؤكد تيبودا دون مزيدٍ من التفاصيل. هل من الممكن حقاً الاحتفاظ بمثل هذه الوثائق على مدى فترة طويلة من الزمن من دون أن يخبر أحدا؟
 
{سر المصادر}
من كان هذا المتبرع الغامض؟ {سر المصادر}يجيب بابتسامة. هل طلب مكافأة مالية؟ {ولا سنتا واحدًا. بالعودة إلى المنزل، يفحص الصحفي الأوراق المتناثرة. بعضها تأكل بسبب الرطوبة، ربما بعد إقامة طويلة في قبو. 
يتابع قائلاً: {كانت هناك آلاف الصفحات، فضفاضة قليلاً، استغرق فرزها شهورا}. ولا تزال بعض حزم الصفحات مجمعة معًا بواسطة مشابك الغسيل الخشبية التي استخدمها الكاتب. عندها فقط أدرك تيبودا حقًا مما بين يديه. 
رواية {حرب} وهي رواية كبيرة غير معروفة تدعى لندن، ألف ورقة من أوراق {الموت بالدين} وعشرات الكتابات والوثائق الأخرى. {اكتشاف أدبي نادر الحدوث في قرن من الزمان}، حسب تقدير بييرا {حدث لا يصدق}، يضيف إميل برامي، كاتب سيرة لوي فرديناند سيلين.
مرت سنوات، ولم يخبر أحدًا، قام جان بيير تيبودا العناية بالمخطوطات. يقول: {خطرت لي أكثر من مليون مؤشر، ولكن بعد وفاة لوسيت، في خريف عام 2019. حان الوقت للكشف عن وجود هذه الوثائق. 
ثم دخل السيد بيارا بعد ذلك في علاقة مع اثنين كانوا يمتلكون حقوق أرملة سيلين. أحدهما، فرانسوا جيبو، محامٍ يبلغ من العمر 89 عامًا، وهو مؤلف السيرة الذاتية للكاتب. 
منذ ستينيات القرن الماضي، دافع عن صديقته لوسيت ديستوشيس في خضم العواصف، وربما هناك بعضًا منها، خاصة فيما يتعلق بالمنشورات الشهيرة. 
الشخص الآخر المخول امرأة تبلغ من العمر 69 عاما، فيرونيك شوفين، صديقة السيدة العجوز، التي كانت معلمة الرقص لها في شبابها. ولمدة ثلاثين عاما، لم يمر يوم، من دون زيارتها.
ويصر السيد تيبودا: {لم أفكر لثانية واحدة في بيعها}... {قيمة هذه الأعمال غير المنشورة بملايين اليوروات}، كما يقول أحد الخبراء. فهذه المخطوطات هي ملك لوسيت ويجب الآن إعادتها إلى أولئك الذين يدافعون عن حقوقهم المعنوية وفي الميراث. 
 
العودة للظهور
في أوائل عام 2021، اتخذت القضية منحى قضائيًا لاستعادة كنز سيلين. في قلب هذا التقاضي، هناك سؤال حاسم: كيف عادت هذه النصوص إلى الظهور بعد ستين عاما من وفاة مؤلفها؟ لمحاولة كشف هذا اللغز، علينا العودة إلى بداية يونيو 1944، في مونمارتر، في الشقة التي شغلها سيلين وزوجته في الطابق الخامس من مبنى في شارع جيراردون، 
منذ بداية الحرب لم يكن الكاتب متحفظا. أعاد نشر كتيباته المعادية للسامية، وطالب بصوت عالٍ أن تُعرض أعماله في المعرض الرهيب {اليهودي في فرنسا} (الذي أقيم في الفترة من 5 سبتمبر 1941 إلى 15 يناير 1942).
لذلك بدا ربيع عام 1944 سيئًا بالنسبة له. فلم تكن عمليات الإنزال 
قد حدثت بعد حتى كانت تصل صندوق بريده رسائل على شكل توابيت إ. {كان علينا أن نبقى في شارع جيراردون، وكان من الممكن أن نقتل على الفور ...} {مصارعة الثيران} المتقنة... السلخ حيا، الخطوة الأولى ... الخطوة الثانية، لحم مقدد بالسيخ، مع بصل صغير، وفلفل، على نار هادئة، كتب في ريجودون.
لذلك، عندما نزل الأمريكان في نورماندي، اتخذ قراره: الذهاب إلى ألمانيا في أسرع وقت ممكن ومن هناك إلى الدنمارك، وكما خطط احتاز على أوراق مزورة باسم لوي فرانسوا ديليتانج. واحتازت لوسيت اوراقا باسم لوسيل الكانت.
في 8 حزيران، حصل على تصريح من السلطات الألمانية قبل الذهاب إلى البنك لسحب مدخراته الأخيرة. حيث قامت زوجته بخياطتها في سترة لن يخلعها أبدًا لعدة أشهر أثناء {هروبه}. كان لديه ما يكفي من الوقت لتوديع صديقته القديمه أرليتي. 
أخيرًا، اتخذ سيلين الاحتياطات اللازمة لإسناد بعض المخطوطات - من بينها روايته فرقة غينول الثانية وبعض صفحات من رواية (الحرب) - إلى سكرتيرته الخاصة ماري كانافاجيا، التي كانت دائمًا مسؤولة عن ترتيب رواياته. فباع من (رحلة في اقاصي الليل) قبل ذلك بأشهر قليلة لمالك معرض باريسي مقابل لوحة صغيرة لرينوار و10000 فرنك.
لكن بقيت مجموعات ضخمة من الصفحات في شقته في شارع جيراردون موضوعة في خزانة. من بينها، أصل (الحرب) و(إرادة الملك كروغول)، و(موت بالدين) ومئات الصفحات الأخرى.
في 17 حزيران 1944، حمل سيلين ولوسيت قطهما بيبر في حقيبة وغادرا إلى بادن بادن، وسرعان ما انضم إليهما صديقه الممثل روبرت لو فيغان. ثم كانت الخطوة التالية إلى مدينة سيجمارينجين الالمانية، وفيها سيلتقون بالمارشال بيتان وآخر أتباعه المخلصين، الذين سيصورهم لاحقًا في روايته (من قلعة إلى قلعة أخرى).
بعد تحرير باريس، ألقى الجنرال ديغول خطابه الشهير في 25 آب/ أغسطس أمام دار البلدية. واختار مقاتلو المقاومة من القوات الداخلية الفرنسية مصنع جعة كمقر لهم. وإليه استقدموا كل من يشتبه في تعاونه مع العدو. وفي بعض الأحيان، يقومون بتفتش منازلهم بشكل قانوني إلى حدٍ ما. لقد ذهب مقاتلو المقاومة بلا شك إلى شقة سيلين بين 25 و30 آب/ أغسطس 1944. والسؤال الحاسم: من منهم من تأبط المخطوطات تحت ذراعه؟
خطرت للكاتب فكرته: وهي أنَّ {أوسكار روزمبلي، اليهودي الكورسيكي الذي سرق حذاء بوبول، ويقصد [الجنرال بول، وهو رسام شهير وصديق سيلين الكبير] والذي جاء بعد مغادرتي ليدمر شقتي}، كما كتب في 26 أيار/ مايو 1949 إلى صديق آخر، هنري ماهي. 
حتى أنه جعل منه شخصية {اليهودي الإسكندر} في نسخة مبكرة من عمله (ارض الخيال لوقت آخر) (1952). يدعم هذه الفرضية البروفيسور هنري غودار، المتخصص بسيلين، ففي كتابه من مراسلات الكاتب يقول: {ناهب شارع جيراردون هو روزمبلي}.
 
الشخصيات الهاربة
فمن هو أوسكار روزمبلي؟ ولد في 4 نيسان/ أبريل 1909 في بوجيولو، وهي قرية كورسيكية تقع على سفح الجبل بين أجاكسيو وكورتي. وفقا لـمعجم مراسلات سيلين (2012)، كان موظفا في شركة أنابيب، وصحفيًا ومن ثم موظفا في مبنى البلدية في الدائرة التاسعة من باريس. كما عمل مع كامي تشوتيمبس، وزير الجبهة الشعبية خلال الحرب، وكان قريبا من الرسام الجنرال بول، الذي اختبأ معه بسبب أصوله اليهودية البعيدة. 
وبين فترة وأخرى، كان يذهب إلى منزل سيلين، الذي كان على الجانب الآخر من الشارع، لتناول المعجنات أو القيام بحسابات الكاتب. يبدو الأمر جنونيا، لكن سيلين، المعادي للسامية، اختار روزمبلي للاحتفاظ برواياته الذي كان يظن أنه كان يهوديا!
 
أفعال مخلة بالشرف
بمجرد أن تحررت باريس، ظهر روزمبلي مرة أخرى كملازم في القوات الداخلية. مع عدد قليل من زملائه، فاستغل الارتباك العام وقام بـ{زيارة} شقق الشخصيات الهاربة. 
وكان رسام الكاريكاتير اليميني المتطرف رالف سوبو أحدهم. كما قام الممثل الكوميدي روبير لو فيغان، المذيع في راديو باريس، بتسمية روزمبلي في نص مكتوب بخط اليد من ست صفحات تم تقديمه إلى المحاكم. وبالتالي، لوي فرديناند سيلين. 
لم تمر عمليات {البحث} هذه مرور الكرام. ففي الخامس من ايلول/ سبتمبر 1944، ألقي القبض على روزمبلي. واتهم بارتكاب {أفعال مخلة بالشرف}. ولكي يُسجن أحد أعضاء المقاومة في عام 1944، كان ينبغي فعلاً أنه ارتكب أمورا خطرة.