الفرق بين التناص والسرقة في عالم المعرفة

منصة 2021/08/14
...

  عمار عبد الخالق 
«لا أسرق الشعراء ما نطقوا، بل لا يوافق شعرهم شعري» فمنذ العصر الجاهلي وإلى الآن والتناص والسرقة، لهما حضور واضح ومثير في المشهد الثقافي، والأدبي بشكل خاص، وهيمنا في كثيرٍ من مظاهره على الشعراء، وعلى علاقاتهم المجتمعية، واتهامهم لبعضهم بعضاً عبر نوافذ التواصل الاجتماعي وغيرها. 
هذه الأمر أصبح معقداً، السرقات والتناص يختلفان من حيث الحكم الأخلاقي، فالسرقات الشعرية تعدُّ من النقائض، وتعدُّ من الأمور المعيبة، أما التناص فبعيدٌ كل البعد عن هذا الحكم الأخلاقي، وما يرادُ به منه هو نقيضها، فهو دلالة على تفاعل النص مع نصوص سابقة عليه، وذوبان نصوص سابقة في هذا النص وتقاطعه معها، وهو يدلُّ على سعة اطلاع المبدع وثقافته، ومهارته في النسيج وإعادة الإنتاج.
 
ذاكرة السرقة الأدبيَّة
تطوّر تاريخ السرقات الأدبيّة وأصبحت أكثر شيوعًا في عصر صدر الإسلام، إذ أصبحت أمرًا غير خفي بين الشعراء، ولعلَّ الأمر الذي أسهم بذلك هو أنَّ الشعر في العصر الإسلامي كان يعتمدُ على الرواية وعلى اجتماع الرواة والشعراء في الأسواق والمجالس العامَّة، فأصبحت السرقة أمرًا منتشرًا لا خلاف فيه، أما في العصر الأموي، فقد اتسع مجال الشعر، إذ كثرت الانقسامات السياسيَّة والقبليّة، وذلك أسهم بزيادة السرقات الأدبيّة، وقد واجه أشهر الشعراء تهمة السرقة في أكثر من موطن، فاستفحل أمر السرقات الأدبية في ذلك العصر، فأصبحت ظاهرة متعارفًا عليها، والذي ساعد على انتشارها هي كثرة الشعراء الذين ينتمون إلى أحزاب سياسيَّة تقاتل بعضها.
ومن جانب آخر يقول جرير:
«سيعلم من يكون أبوه قينا ومن عُرفت قصائده اجتلاباً»
وهذه القطعة الشعرية قد هيجت الحمية في نفس الفرزدق حتى ردَّ على جرير بقوله:
«إنَّ استراقك يا جرير قصائدي مثل ادّعاء سوى أبيك تنقل»
ويعدُّ مصطلحا السرقة والتناص متشابهين، بيد أنّ الاختلافات تقع في نقاط صغيرة، إذ يُربط التناص دائمًا بما هو إبداعي، فيُعد أحد الجوانب الإبداعيّة في الأدب، أما السرقة فهي ذات لفظ يُقلل من القيم الأخلاقيّة وتؤدي إلى التجريح بصاحبها، فضلاً عن أنَّ السرقة الأدبيّة تعتمد على المنهج التاريخي والزمني، أي أنَّ اللاحق هو السارق من السابق، في حين يقوم التناص على المنهج الوظيفي، وتعود ظاهرة التناص إلى الثقافة الأدبية القديمة، فهي تعني أن جميع ما يُقال وما يُكتب ليس إبداعًا من العدم، وإنما هو حصيلة ثقافات ماضيّة سواء أكانت في اللفظ أم المعنى، ولا تكتفي هذه الظاهرة على مصطلح التناص والسرقة فهناك مصطلحات أخرى مثل: الانتحال، والتضمين، والاقتباس. 
هذا جدلٌ مستمرٌ الى الآن في الوسط الادبي والفني، وهو ما يثير ويتيح لنا طرح تساولنا على نخبة من الأدباء والأكاديميين والباحثين «ما هو الفرق بين السرقة والتناص في عالم المعرفة؟»
 
الحكم الأخلاقي
يرى الكاتب علاء كريم أنَّ «الفرق بين السرقة والتناص ينبثق من الفعل المحدث الجديد، إذ يقابل هذا الفعل التغيير والتطور الذي يأتي لاحقا، فالتناص نظرية اشتغلت على فتح آفاق جديدة في الدرس النقدي للأدب، ووجدت هذه النظرية صدى كبيراً في الغرب والشرق، ايضا عملت هذه النظرية على خروج مفهوم التفكيك من داخل متنها، فكانت بحق نظرية خلق وبناء. أما مفهوم السرقة فلم يتبلور إلا بعد تدوين الجنس الأدبي والانتقال من محتواه الى تدوينه، أي ما يرافق ذلك الانتقال من تغير فكري شفوي الى موضوعة التدوين. ونصل الى نتيجة مفادها، إنَّ السرقات الادبية هي أنْ يعمد الأديب بأخذ مادة ممن سبقه، فيقوم بعملية إزالة للمعنى السابق وإعادة البناء والخلق في عملية خفاء وتسويف على المتلقي».
وأضاف كريم: «بالتالي تحكم السرقات الأدبيَّة والتناص عبر متابعة النصوص المحكومة بالتجدد، ليتم التاكيد على أنَّ الكاتب ليس إلا معيداً لإنتاج مادة سابقة، فضلاً عن أنَّ السرقات والتناص يختلفان من حيث الحكم الأخلاقي، فالسرقات تعدُّ من الأمور المعيبة، أما التناص فبعيدٌ عن هذا الحكم الأخلاقي، فهو دلالة على تفاعل النص مع نصوص سابقة عمل عليها الكاتب لأجل إعادة إنتاجها».
 
وسائل التواصل الاجتماعي
الكاتب رياض العلي من جانبه قال: «من الخطأ الاعتقاد بأنَّ أي نص أدبي هو مستقلٌ تماماً عن أي نص سبقه، فكل النصوص تندمج ضمن علاقات تناصيَّة بشكلٍ أو بآخر، وهذا التناص يأتي من خلال القراءات المتشابهة أو البيئة المشتركة أو تناول موضوع واحد، والتناص يختلف اختلافاً جذرياً عن السرقة الأدبية، فهذه الأخيرة تعني انتحال نصٍ أو جزءٍ منه ونسبته الى غير صاحبه، أو إجراء تغيير في بعض الألفاظ، وهذا النوع الأخير منتشرٌ بكثرة خاصة بالنسبة للنصوص التي تنشر في وسائل التواصل الاجتماعي حيث تضيع حقوق الكاتب الاصلي».
 
مصطلح نقدي
وتحدث المخرج السينمائي حسنين الهاني: «في الأدب العربي يكون التناص مصطلحاً نقدياً يقصدُ به وجود تشابه بين نص وآخر أو بين عدة نصوص، وهو مصطلح صاغته جوليا كريستيفا للإشارة إلى العلاقات المتبادلة بين نص معين ونصوص أخرى، وهي لا تعني تأثير نص في آخر أو تتبع المصادر التي استقى منها نصٌ تضميناته من نصوصٍ سابقة، بل تعني تفاعل أنظمة أسلوبيَّة. وتشمل العلاقات التناصية إعادة الترتيب، والإيماء أو التلميح المتعلق بالموضوع أو البنية والتحويل والمحاكاة».
وأضاف «يعدُّ التناص من المصطلحات التي لاقت رواجاً لافتاً في الدراسات النقديَّة، وقد أسهم هذا المصطلح بشكلٍ فعالٍ في فهم النصوص الأدبية، بوصفها تراكماً لنصوصٍ سابقة، يعمدُ الكاتب إلى تضمينها في نصوصه بشكل واعٍ أو غير واعٍ، فيسعى الناقد للتنقيب عنها وإبرازها للقارئ، عبر عملية أركيولوجيَّة تستهدف التنقيب في طبقات النص الخفية، فالاقتباس في الفن حقٌ مشروع، ولكنْ يجب أنْ يدخل عليه روح الكاتب أو الفنان في أي مادة فنية، إنْ كانت قصَّة أو لوحة أو شعراً أو حتى فيلماً، لكن على أنْ تتضمنَ طروحات جديدة ومغايرة لكنها نبعت من أصل الفكرة المقتبس منها».
مشيرا الى أنَّ «السرقة تعني أخذ المادة الفنية وطرحها بشكلٍ مطابقٍ من دون أدنى تغيير في الشكل والمضمون، وهذا يسمى مصادرة الجهود، وأخذ الحقوق، وغالباً ما تكون هذه الحالة عقيمة وسطحيَّة، ولا تدلّ على أي إبداع، بل ربما سوف تكون نقطة سوداء في ملف من سرق دون أنْ يشير الى صاحب الحقوق».
 
السرقة من الوهن الإبداعي
يرى الكاتب والأكاديمي الدكتور عمار الياسري: «منذ الصيرورة الأولى والأجناس الأدبيَّة التي نظر لها الفيلسوف الأغريقي أرسطو ونشوء الدراما الأغريقية متداخلة النصوص مبنى ومعنى، فشخصية أوديب تنوعت في عشرات النصوص، ومع نشأة الشعر العربي، وبسبب التداول الشفاهي تشابه التشكيل الشعري حتى طرح مفهوم (سقوط الحافر على الحافر)، وكثر الحديث عن مصطلحات مثل التوارد والسرقة والتشابه والاقتباس والتضمين، ما أوقع الكثير في خلط مفاهيمي لماهية المصطلح».
وأضاف الياسري: «مع تنظيرات الحداثة لتدوروف وبارت وجوليا كريستفيا حول علم النص، بزغ مفهوم التناص، وحسب طروحاته، فإنَّ للنص مرجعيات قبلية خارجية وداخلية تفرضها الحمولات الفكرية والتداولية اللغوية والبصرية ما يجعله فسيفساءً لنصوص سابقة، شريطة أنْ تذوب النصوص السابقة في النص الجديد مبنى ومعنى وإلا سقط في تهمة السرقة، أما التناص كما يقول الياسري فهو من المفاهيم الجمالية، وعسكه السرقة التي هي من الوهن الإبداعي، والأمثلة المعاصرة لا تعد ولا تحصى».