تراجيديا الطف ومسرح التعزية الجاد

منصة 2021/08/16
...

 صباح محسن كاظم

الملحمة المقدسة الخالدة لسيد الشهداء الحسين «ع» في طف كربلاء، لها حضورٌ واسعٌ ومؤثرٌ في الجموع المليونيَّة في كل أصقاع المعمورة، لهول المأساة، وحسرة ما وقع لآل البيت عليهم السلام، ووطأتها سايكولوجياً على من يرى التشابيه التي تحاكي الواقعة تاريخياً، لذا يبدر السؤال الأهم: كيف نؤصل مسرحياً لهوية هذا المسرح الجاد واستخدام الرمز ـ الإمام الحسين ـ في تسويق فكر ومبادئ وقيم آل البيت عليهم السلام؟ وكيف نتعاطى مع الموروث الشعبي الذي تختزنه الذاكرة الجمعيَّة لملحمة الطف، بالتوظيف المتقن للأحداث المروعة والمؤلمة والتراجيديَّة، مع المشاهد الشعبية في قرع الطبول، واستخدام السيوف، والأزياء التاريخيَّة، يستقطب القواعد الشعبية في اتجاهاتها المختلفة.. فالخصوصيَّة الأخلاقية، والروحيَّة، والتربويَّة، والثقافيَّة، هي قيمة العمل في المسرح الإسلامي.
 
 
جوهر ومضمون العرض المسرحي الإسلامي يتعاطى بوعي بمفردات عن تاريخ التضحية لرموزنا الروحيَّة والبعد المعرفي، والجمالي، والقيمي، والروحي، مستلهماً من تراث الأمة ورموزها وشخصياتها، فهذه الخصوصيَّة تتمثل بالمسرح الجاد والهادف للارتقاء بالسلوك الإنساني لما يجب أنْ يحتذى به فهم الأسوة، والقدوة، والرمز، والطهر، وحملة المبادئ السامية، لذلك آل البيت محط اهتمام مختلف العقائد والأديان حتى من اللا دينيين يعدونهم رموزاً في الإباء والفداء.. يعتمد الموروث الشعبي المستخدم في الخطاب المسرحي الإسلامي كل الجوانب التاريخية من أزياء، وعدة حرب، واستخدام السينوغرافيا التي تتماهى مع البيئة الجغرافيَّة والمكان، مع تقديم سيرة النبي وآله في ثنايا العرض لتقديمهم للمتلقي بما يليق بمناقبهم وفضائلهم، وهذا الشعور يجعل المشاهد يتناغم مع الشعور الجمعي للمتلقين، لذا يتم التفاعل بين المؤدي والمتلقي.
 
مسؤوليَّة حضاريَّة وثقافية
لا ريب أنَّ الهدف من المسرح  الهادف والجاد هو المسؤوليَّة الحضاريَّة والثقافية في الدور البارز بتوصيل الأفكار، والرؤى، والطروحات الجادة، وقد اتخذ كمنبرٍ للخطاب الجمالي والثقافي لعرض القيم الأصيلة والمستوحاة من التاريخ الإنساني، والعربي الإسلامي بشكلٍ خاص. فالمسرح الجاد والرصين ضرورة لا غنى عنها إطلاقاً في بناء الشخصية، قبال التزييف والتشويه للمسرح الآخر التجاري الذي يشيع الرذيلة والعهر ويمارس لعبة الضحك على الذقون بالألفاظ أو الحركات التي تحرك الغريزة. فإرساء القيم الروحيَّة والخلقية والتربوية، التي يسعى إليها المسرح الإسلامي ويقننها ويشرعها ويؤطرها بالمثل والمبادئ، التي تؤسس لها جميع الشرائع السماويَّة والأنبياء والأولياء والشهداء، وقد نجحت التجربة العراقيَّة والإيرانيَّة واللبنانيَّة، وبعض المسرحيات الجادة في مصر كمسرحيَّة (الحسين شهيداً) و(الحسين ثائراً) للشرقاوي في السبعينيات والتي قدمت بروفات عديدة منها العرض الرائع الذي أدهش الحضور من الفنانين والإعلاميين والمثقفين الذين تفاعلوا مع العرض، ثم أوقف العمل بأمرٍ حكومي في الأيام التالية خوفاً من تأثر الآلاف بهذا العرض عن مأساة الإمام الحسين الشهيد (ع)، ومسرحية (ثانية يجيء الحسين) للشاعر محمد علي الخفاجي.
وما كتبه المبدع رضا الخفاجي عن الحر أو سفير الحسين أو في كتابه عن التنظير للمسرح الحسيني... إلخ من المسرحيات التي تتناول الطف كالعرض الذي قدم في الكويت والخليج العربي كمسرحية (حج الحسين) للمخرج المسرحي عبد الله الخميس وقد عرضت في 10 محرم في العام 2010، والعرض المسرحي لفاجعة الطف الذي قدم في البحرين في محرم 2011، أما في العراق وبعد زوال الديكتاتورية فقدمت فرق المدن المختلفة عروضها التي تتناول ملحمة الطف الخالدة فقد قدمت فرقة الراية مسرحيَّة عن الملحمة الزينبيَّة العام الماضي نالت صدى رائعاً، وقدمت في العام 2008 في محرم مسرحيَّة (فاجعة كربلاء) لفرقة تبارك في مدينة الصدر، وفي المسرح الإسلامي كتب رضا الخفاجي وعلي حسين الخباز وحازم رشك وعمار نعمة جعفر وعلي عبد النبي الزيدي وغيرهم نصوصاً رائعة عديدة عن ملحمة الطف مثلت أغلبها بمهرجانات مسرحيَّة مختلفة.
 
ذروة التفاعل الوجداني 
إنَّ إيجاد مسرحٍ إسلامي ملتزم يستلهم رؤاه وخطابه المسرحي من العقيدة الإسلاميَّة منهجاً وسلوكا وغاية، والرسالة عبر هذا المسرح كفيلة بإيجاد وعي بتراث الأمة، ورجالها الأفذاذ، وبالتالي يخلق التفاعل والتواصل بين المتلقي، والعرض المسرحي في المسرح الإسلامي ليحذو حذو رجال الحق والتضحية في مواجهة الواقع، لذا يمثل الخطاب المسرحي الحسيني ذروة التفاعل الوجداني، ويكون بالغ الأهمية باسترجاع خصوصيَّة الأحداث برفض مهادنة الباطل، وارتباط الأحداث بمشاعر الجمهور التي تنصهر وتذوب حباً وولاءً للرموز الإسلاميَّة، ولعمق المأساة والبلاءات التي مروا بها من أحداثٍ تُفزع المشاهد بسبب وحشيَّة ودناءة من ارتكب أبشع جريمة بإبادة آل البيت الأقداس، وتثير الأسى والحزن والتفاعل الوجداني فإدراك المتلقي مظلوميَّة الحسين «ع» الرمز الروحي المقدس لدى جميع الإنسانيَّة، يثيرُ الشجن والتعاطف لدى المشاهد، فضلاً عن استخدام المثيرات النفسيَّة في المسرح كالطبول والحركات والإيماءات والحوار والطقوس الخاصة واستخدام الأطفال ودور المرأة الفعال بالتعزية عوامل شدٍّ للمشاهد في المسرح الإسلامي.
لقد ولد مسرح التعزية من رحم فعل التشابيه والطقوس التي يمارسها المسلمون في محرم، وإنَّ الخطاب السسيولوجي الشيعي يقوم على المراثي الحسينيَّة، والشعائر، التي تنطلق من آلام المسلمين وعمق المأساة من رحيل المصطفى الى واقعة الطف والملحمة المقدسة، والسيمفونيَّة الخالدة، لشهداء ثورة الحسين؛ ثورة الحق ضد الباطل التي تجسدت فيها القيم والمثل والفضائل، قبالة الشر والغدر والدناءة والخسة في النفوس الشريرة.
 
قناة معرفيَّة
المسرح الإسلامي قناة معرفيَّة تربط المتلقي بتداعيات الحدث الإسلامي من السقيفة الى الطف بكل التحولات والمواقف والابتعاد عن القرآن ووصايا الرسول الأعظم والانحراف الأكبر للأمَّة. بالطبع العمل الثقافي والتاريخي يتطلب جهوداً حثيثة من المفكرين والباحثين والكتاب لإرشاد الأجيال وتصحيح المسارات الخاطئة التي سببت تلك المأساة الدامية ومحاولة إطفاء بيت النبي بقتل جميع الأبناء.
والمسرح أحد أهم أركان العروض المسرحية الحسينيَّة بعد انهيار نظام البغي والضلالة لكثرتها بمدن مختلفة. لقد انطلقت أعمال مسرحية رصينة وجادة كمسرحيَّة (الف محنة في محنة) عن شهيد الله وشهيد الفكر وعلم الفلسفة السيد الشهيد محمد باقر الصدر (قد) عرضت بفضائيَّة العراقية وغيرها. قدمت ليوم واحد عام 2004 على مسرح الرشيد من تأليف فلاح شاكر وإخراج مشترك مع أحمد حسن موسى ورائد محسن وتمثيل سامي عبدالحميد وشذى سالم وسناء عبدالرحمن وباسل شبيب وسعد محسن.
وقدمت فرقة النور في جامعة ديالى مسرحية (القرار) عن شهادة السيد محمد الصدر (قد سره) في عرضٍ مسرحي في الناصريَّة، تضمن الممارسات القمعيَّة لسلطة البعث والإعدامات الجماعيَّة، والأساليب الأمنيَّة في التحقيق داخل السجون الوحشيَّة، وقد تناولتها بالدراسة مجلات وصحفٌ متعددة مع أعمال جماعة الناصريَّة الجادة التي قدمتها كمسرحيَّة (ليلة جرح الأمير) التي قدمت في ذكرى استشهاد أمير المؤمنين (ع) ومولى الموحدين ويعسوب الدين علي بن أبي طالب، واستخدام المسجد كفضاءٍ للعمل المسرحي، لشدة الرابط الروحي بين الحدث والمتلقي، ولعمق التأثير والتفاعل به، وقد شكل العمل خطاباً جمالياً، ومعرفياً، مؤثراً، فقد هز وجدان الحاضرين وأجهشوا بالبكاء عند شهادة أمير المؤمنين عند العرض، وهو دلالة على فعل العمل المسرحي بالمتلقي وقد تفاعل مع العمل الحضور بكل خلفياتهم الفكريَّة والعقائديَّة ومستوياتهم الثقافيَّة، وقد مورس السمعي والبصري، وأشرك الجمهور في العمل، فكان كرنفالاً مؤثراً وقد نجح ياسر البراك في إخراج عملٍ رصينٍ ومؤثرٍ كتبه شاب يحث الخطى للسمو الروحي والأخلاقي عمار نعمة ومثله نخبة متعلقة بشغف لتقديم أعمالٍ رصينة حيدر جبر، عمار سيف، مع مشاركة أم عمار كظل الزهراء عليها السلام.
أما في عمله الآخر فقد قدم ياسر البراك أنموذجاً حضارياً جمالياً وروحياً عن مأساة الطف وعطش الصبية ودور العباس (ع) في حمل الماء في (الماء يا قمر الشريعة) والذي عرض في مسجد الشيخ حسن بالناصرية.. واستمر البراك في اتخاذ المسجد فضاءً للعرض المسرحي للطاقة الروحيَّة في المكان المقدس، وقد أدى الممثلون أدوارهم ببراعة الصبية مع الفنانين الآخرين: كريم جبر، حيدر جبر، علي بصيص، عمار سيف، صفاء عبد الحسين، استبرق عبد الجبار، فكانت حواراً حضارياً بين الأديان المسيحيَّة واليهوديَّة والحضارة الغربية مع المشهد الإسلامي فكانت أطروحة فيها الجمال والشعريَّة والأداء المتقن والكلمة الجميلة لمؤلف العمل الشاعر حازم رشك وملاك الإضاءة حبيب حرز, وهذا العرض يضاف الى سجل الجماعة في تناول المسرح الإسلامي برؤية إسقاطيَّة حداثويَّة لخدمة المسرح الإسلامي.
وفي كلمة لمخرج العمل عن هذه العلاقة التبادليَّة بين (المسجد) كمنظومة مفاهيم وأفكار وبين (المسرح) كمؤسسة معرفيَّة تنتشل المتلقي من دنيويته وتقذف به في أتون السفر الاخروي في ملكوت الرحمن. إنَّ الملفت في هذا العمل هو توظيف الرؤية المشتركة للديانات المتعددة وربطها بالمسرح الإسلامي.
 
ثقافة روحيَّة وجماليَّة
إنَّ هذه الأعمال تؤسس لثقافة روحيَّة وجماليَّة وتنتشل المسرح العراقي من الهبوط، والإسفاف، ومسرح الشباك التجاري، وتنقله الى مسرح يتسم بالرصانة ورسالته الجماليَّة، ولو خلصت النية وتوفرت الإمكانات سينتقل المسرح الإسلامي من المحلية الى العالمية.
قدم ياسر البراك عملاً مسرحياً إسلامياً رائعاً في حديقة غازي أواخر العام الماضي بحضور الشيخ محمد مهدي الناصري في حفل المولد النبوي الذي قدمته جمعيَّة التضامن الإسلامي بمناسبة المولد النبوي وكانت مسرحية ثنائية مثلَ مع البراك عمار نعمة جابر، جسدت الرسالة الإسلاميَّة ودعوة النبي محمد (ص) وفي عمله الأخير (قبور بلا شواهد) تأليف عمار نعمة جابر وإخراج ياسر البراك مع نخبة من الممثلين عمار سيف، وحيدر جبر، مؤيد حسين، حيدر عبد الرحيم، ستار عبد الواحد، علاوة على مجموعة من الصبية.
تناول العرض المأساة الإنسانيَّة منذ قابيل ومروراً بواقعة الطف وشهادة الإمام الحسين (ع) ثم المقابر الجماعيَّة في زمن الدكتاتوريَّة وحوادث العنف والإرهاب التي طالت العلماء والوطنيين وحصدت أرواح الشعب العراقي، ففي مشهدٍ رمزي رائع بشأن شهادة المجاهد (محمد باقر الحكيم) لم يبق إلا خنصر وعمامة بعد صعود الروح الى عليين.
إنَّ المسرح الإسلامي هو قناة توصيل جادة بين المتلقي والمؤدي يتفاعل فيهما الاثنان؛ لوجود الشحنة العاطفيَّة التي تحرك مشاعر المتلقي للدفاع عن العقيدة والقيم وعدم مهادنة الباطل.
إنَّ مهرجان كربلاء المسرحي الأول في العام 2007 والعروض الجادة التي قدمت، بشرت بمستقبلٍ واعدٍ لأجيالٍ مسرحيَّة جديدة، وكذلك ما قدم يوم ولادة أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) في النجف الأشرف، وقدمته فرقة الدجيل المسرحية يعدُّ عملاً رائعاً تفاعل الجمهور معه بإعجابٍ شديدٍ رغم أنَّ القاعة كانت لا تسع للعدد الكبير الذي اكتظ بالحضور.
 
مواكبة الطروحات المسرحيَّة
وفي مهرجان المسرح الجنوبي في العمارة الأول والثاني، والثالث والعروض المسرحيَّة الإسلامية لفرقة الغدير في المهرجان الأول بشأن شهادة أمير المؤمنين ليلة مقتل العدالة الإنسانيَّة إخراج وتأليف الشيخ البهادلي، يعدُّ هذا العرض من التجارب المهمة في المسرح الإسلامي، وكذلك قدمت فرقة تبارك في مدينة الصدر مسرحية (فاجعة الطف) في محرم 2008 وهي باكورة الأعمال المسرحيَّة الجادة الرصينة للفرقة في أربعينية الإمام الحسين (ع)، عام2010 قدم عرضان مسرحيان بكربلاء لفرقة المسرح بمدينة الصدر وبحضور جماهيري كبير مع العديد من النقاد مثل الدكتور حسين التكمجي، والناقد سعدي عبد الكريم، والأديب والناقد علي حسين الخباز، أسهمت بالرأي في آلية تطوير العروض وتشجيع كادر الرابطة على المضي قدماً بهذا التوجه الفكري والثقافي وتمت مناقشة العروض المقدمة وآلية تطوير المسرح الحسيني وفق رؤية معاصرة طرحها المؤتمر التأسيسي الأول في كربلاء لمدة يومين خاض في لجة غمار النقاشات الهادفة الجادة عديدٌ من الأكاديميين المعروفين والفنانين والمسرحيين وجمع من العلماء والنخب الثقافية لتأسيس مسرحٍ حسينيٍ يستوحي أحداث الطف لينطلق بها من المحلية الى العالمية.
إنَّ الاشتغالات الرؤيويَّة الحديثة المتعددة في مسرح التشابيه تنقله الى مرحلة جديدة لمواكبة الطروحات المسرحيَّة الأخرى وتنقله الى المتلقي بكل اعتقاداته ومتبنياته الايديولوجيَّة والفكريَّة، لأنَّ القيم الحسينيَّة تعدُّ من المثل والنبل التي لا يدانيها أية فروسيَّة أخرى.