المطبخ البيروتي في عاشوراء

منصة 2021/08/18
...

 غفران حداد
يشتهر المطبخ البيروتي بأشهى وألذ المذاقات، فهو يمثل انعكاساً لجمال ونكهة الطبيعة الخلابة في بيروت وبقية العواصم العربيَّة والعالميَّة، بل سيجد السائح إذا قرّر زيارة لبنان المدينة الصاخبة التي لا تنام والتي تعج بسكانها وسياحها طوال أشهر السنة، مطاعمها منتشرة في كل الشوارع والأحياء والأزقة وحتى الأمكنة الشعبيَّة وكل منها يتميّز بلمسته الخاصة، وحرفيته بنوعٍ معين.
ولكنْ على الرغم من شهرة الأكلات البيروتيَّة من المشويات والمقبلات والسلطات والفتّوش والتبوّلة ونكهات حامض الليمون وزيت الزيتون وقائمة كبيرة حتى من الأكلات الشعبيَّة اللذيذة، لكن الطباخ/ ة سواء في المطعم أو المواكب الحسينيَّة في شهر محرم عندما يريد طبخ الأكلات المشهورة في المطبخ الكربلائي أو النجفي من الرز والقيمة والأخيرة التي تطبخ وتوزع في أيام شهر محرم وخاصة يوم عاشوراء فإنه/ها، لا يجيدها مثلما تجيد طبخها أبسط ربة منزل في العراق، وبدون مبالغة أقول هذا الكلام رغم محاولة طبخ ذات المكونات التي تطبخ في هذه المناسبة الحزينة، فطبخة القيمة ليست ذات طعم القيمة النجفيَّة أو التي تطبخ في أي منطقة في مناطق العراق والسبب الرئيس في فشل طبخ يخنة القيمة أنَّ من أهم مواد هذه الأكلة هو اللحم ويجب أنْ يكون بكميات كبيرة، لكنَّ المطبخ البيروتي يضع كميات قليلة منه بحيث طعم الحمص وخلطة البهارات والتوابل هي الطعم الطاغي في الأكلة.
يأتي هذا التدبير في وضع كمية اللحم من غلاء بيع الأغنام في بيروت، فلبنان بلدٌ غير زراعي ومعظم ينابيع مياهه مالحة وكل ما يدخل إليه هو استيراد من خارج البلاد بعكس العراق فإنَّه بلد زراعي ويشق أراضيه نهران ومياهه عذبه، فتكون أسعار الأغنام والأبقار فيه مقبولة، فتربية هذه الحيوانات الأليفة ليست بالصعوبة التي يجدها الفلاح اللبناني.
هذا التدبير في طبخ قدور يخني القيمة في يوم عاشوراء وحتى في أربعينيَّة الإمام الحسين عليه السلام كان قبل ثورة اكتوبر 2019، حيث كان سعر صرف الدولار بـ 1500 ليرة لبنانيَّة، أما اليوم فسعر كيلو اللحم قارب المئتي ألف ليرة، وهذا الغلاء الفاحش أجبر الأسر البيروتيَّة التي اعتادت على نصب المواكب الحسينيَّة أو الطبخ في المنازل وتوزيع الطعام للزوار والأسر الفقيرة وإهداء ثوابه لروح الإمام الحسين «ع» على عدم المشاركة في المطبخ العاشورائي ومعظم محبي أهل البيت عليهم السلام اكتفوا هذا العام بطبخ الهريسة ومكونها الرئيس القمح وبعد نضجها يتم تزيين الأطباق بالقرفة والسكر والقليل من السمنة وتوزيعها ساخنة لأهالي الحي والجيران والمارة. لم يكن الغلاء وحده من غيَّرَ ملامح المطبخ البيروتي في شهر محرم، بل جائحة (كوفيد – 19) التي غيرت الكثير من طقوس هذه المناسبة الحزينة، فبعد أنْ كانت المواكب الحسينيَّة تملأ الأحياء الشعبيَّة وأبرز الساحات وتقام الشعائر في ظل تجمع النسوة والرجال وحتى الأطفال وإقامة مجالس العزاء في المنازل، أصبح هناك بيانات تصدر من قادة الطوائف والمذاهب بعدم التجمع لأجل الخطب أو نصب خيم العزاء، بل أصبحت المنابر الحسينيَّة تبث بشكلٍ مباشرٍ عبر منصات مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، وأصبح التفاعل الرقمي مع هذه المناسبات الحزينة هو الحل لمواجهة كورونا، إذ إنَّ التباعد الجسدي وارتداء الكمامة واستعمال المعقمات بشكلٍ متكررٍ جزءٌ كبيرٌ من المعاني الإنسانيَّة التي نستمدها من قضية ورسالة الإمام الحسين «ع»، وهنالك عقولٌ نيّرة غيَّرتْ مسار الشعائر الحسينيَّة التي كانوا يحيونها فقام البعض من المقتدرين مادياً بالتبرع بالأموال التي كانت مخصصة لتجهيز المواكب الحسينيَّة من الطعام والشراب خصصت لشراء قناني الأوكسجين وتوزيعها بين المستشفيات لعلاج المرضى المصابين بفيروس كورونا وهذه الإنسانيَّة من حب الآخر والمساهمة في علاج المصابين هي من أهم دروس الإصلاح التي جاء بها الإمام الحسين عليه السلام.