سقوط كابول.. العودة الى أقبية الإمارة

منصة 2021/08/22
...

  علي حسن الفواز
قد يبدو للكثيرين أن الحدث الأفغاني بسيطرة طالبان على كابول حدث صادم، ومفارق، لكنه في السياق العام سيكون حدثا متوقعا في ظل جملة من المتغيرات التي حكمت السياسة الأميركيَّة في السنوات الأخيرة، وغيرت من طبيعة توجهاتها الستراتيجية في المنطقة، وفي التعاطي مع المشكلات الجيوسياسية التي تخص الهويات العنفية، والجغرافيات العدائية.
 
ما جرى ليس بريئاً وخاطفاً- كما يعتقد البعض- بل يعكس واقعاً تراكمياً لهذه السياسة، فمنذ توجهات الرئيس باراك اوباما بتقليل نزعة العسكرة الأميركيَّة، دأبت بعض دوائر مؤسسته على التعاطي مع بعض حركات الإسلام السياسي، بقصد احتوائها، وضبط إيقاعها، وتحريضها على الانخراط في السياسات الأميركيَّة، على مستوى فتح حوارات معها، وإعادة توجيه خطابها الايديولوجي، أو على مستوى تفريغ شحنات العداوة للغرب باتجاهات أخرى، والنظر الى المحتوى الصراعي للجماعات الإسلامية من خلال منظور المصالح أولاً، أو من خلال توظيفها لتكون بؤر أزمات جاهزة للاستعمال ثانياً، حيث تحكمها الحاجة إليها، ولتوظيفها في صراعات داخلية أو مع خصوم تشاطرهم أميركا العداء، والذي سيجعل من الولايات المتحدة تقوم بدور البطل المخلص دائماً، اقتصادياً وسياسياً وأمنياً، وهو ما جرى بعض فصوله خلال «موسم» الربيع العربي، ودعهما لجهات على حساب أخرى، والذي سبقه ما حدث في حرب البوسنة والهرسك، إذ وقفت أميركا ضد المسيحي الارثوذوكسي، لصالح المسلم البوسني، إذ أدّى هذا الانحياز الى تمزيق المركزية الصربية واليوغسلافية عموما في أوروبا..
ما كان يجري في اجتماعات الدوحة بين حكومة اشرف غني وطالبان، وبإشراف أميركي، وحتى الزيارات المكوكيَّة للمندوب الأميركي خليل زادة، تعكس مدى الاهتمام بإيجاد نهايات لـ «المأزق» وبما يخدم التصورات الأميركيَّة، وعلى وفق المتغيرات التي تجري في غرب آسيا، وازاء صعود الصين الاقتصادي، وتحول روسيا الى «لوثيان سوفيتي آخر» فضلاً عن حساسية الموقف الإيراني ازاء ادارة ملفات السياسة والاقتصاد والامن، والموضوع النووي، وهو ما جعل أميركا تستعجل - وبنوعٍ من البراغماتية السريعة - معالجة هذه المعطيات، حتى لو كان الأمر على حساب ثنائية النصر والخسارة، لكن سرعة تداعيات الأحداث، والطريقة التي احتل فيها الطالبانيون كابول جعلت الكثيرين يتحدثون عما يشبه «الهروب الأميركي» ويربطون ما جرى في العاصمة المهزومة، بما حدث في «فيتنام الجنوبية» وهروب الجيش الأميركي من «سايغون» وسقوطها بيد الشماليين عام 1975.
 
سقوط رمزي 
واحتلال ايديولوجي
مثلما أن احتلال افغانستان- رغم عنفه العسكري- كان رمزياً عام 2001 وبدلالة معاقبة «جماعة القاعدة» المسؤولين عن تفجير برجي نيويورك، فإنَّ ما حدث في 15/ آب/ 2021 قد يحمل ذات الدلالة التي توحي بمعاقبة الولايات المتحدة على احتلالها كابول، ليبدو وكأنه هزيمة عسكرية وايديولوجية مزدوجة، فالصورة التي بثتها وكالات الأنباء لهروب الضباط والجنود من الجيش الافغاني، والمشاهد الدراماتيكية لحشود الناس الهاربين في المطار، تكشف عن نتائج مزرية لقواعد الاشتباك التي فرضها العقل العسكري الأميركي المسؤول عن إعداد وتدريب وتسليح هذا الجيش، وبما يجعلها الأقرب للفضيحة، فضلاً عن كونها هزيمة ستراتيجيَّة لمفهوم المؤسسة أمام مفهوم الجماعة، وسقوط العسكرة أمام احتلال الأدلجة..
الذاكرة الأفغانيَّة ليست بعيدة عن الصراعات، ولا عن تلك الثنائيات المرعبة، فبعد الاحتلال «السوفيتي» لأفغانستان عام 1979، وفرض النمط الايديولوجي الماركسي على «الجمهورية الافغانية» بدأت الولايات المتحدة حربها المضادة، بالتنسيق مع بعض الدول الإقليميَّة، لتشجيع الجماعات الأفغانيَّة المتطرفة على نشوء «الإمارة الإسلاميَّة» في أفغانسان، بوصفها الضد النوعي للجمهوريَّة، ولقادة الحزب الشيوعي الأفغاني عبر قادته – نور محمد تراقي، حفيظ الله أمين، ببراك كارمل، وأخيراً محمد نجيب الله الذي أعدمه طالبان- إذ دعا زينو بريجنيسكي مستشار الأمن القومي الأميركي في عهد الرئيس جيمي كارتر الى « إغراق أفغانستان بالجهاديين من كل حدب وصوب، لتكون بمثابة وسيلة مثلى لإرباك موسكو وإنهاك الجيش الأحمر وإجباره على الانسحاب من البلد في نهاية المطاف» فضلاً عن إشرافه المباشر على جهد مخابراتي كبير لوضع هذه الجماعات في خدمة «المعركة» وفي كسر شوكة رهان التوسع الايديولوجي للاتحاد السوفيتي في الجغرافيا الإسلامية.
تقويض الجمهورية، وعودة حكم الإمارة يحمل معه دلالات رمزيَّة كبيرة، على مستوى آلية الحكم، وإنهاء عمل المؤسسات، والعلاقات الدبلوماسيَّة، وعلى مستوى توصيف هوية البلاد وحقوق المكونات والعلاقة مع الآخر، لا سيما أنَّ المجتمع الأفغاني يضم عدداً من المكونات، أبرزها – البشتون، الأوزبك، الطاجيك، الهزارة -..
 
جيوش المؤسسات 
وجيوش العقائد
أنفقت الولايات المتحدة طوال عشرين عاماً أكثر من «88» مليار دولار لتدريب وتأهيل وتجهيز قوات الدفاع والأمن الأفغانيَّة، وتأطير بنيتها على وفق أحدث النظم المؤسساتيَّة في العالم، وحسب عقيدة الحرب الأميركيَّة، وهو ما أسهم في تضخيم هذه القوات، لتبلغ أعدادها أكثر من 300 ألف عسكري، وبقادة ميدانيين مدربين لمواجهة أخطار الحروب الداخلية والخارجية، مع وجود منظومة تسليح ضخمة، بما فيها الطائرات الحديثة.
البحث عن أسباب الانهيار السريع، وتفكك منظومة الدفاع بهذه الطريقة تحتاج الى قراءة عميقة، والى معاينة واقعيَّة، ليس لمراجعة أبواب الإنفاق والتدريب فحسب، بل للكشف عما هو عميق، لا سيما ما يتعلق بجوانب الفساد، وضعف البناء، وغياب الالتزام بسياقات «العقيدة العسكرية» التي تكفل آليات الدفاع والمواجهة، أو لتقليل الخسائر، ولمنع ما حدث من انهيار غرائبي في عموم المؤسسة العسكرية واستسلام القادة الكبار أو هروبهم الى خارج أفغانستان، فضلاً عن الضعف أو الارتباك الأميركي في الدفاع عن بلد احتلوه منذ أكثر من عشرين سنة.
فما هي الأسباب الخفية التي كانت تقف خلف الانسحاب السريع الذي أقدم عليه الرئيس جو بايدن؟ وهل أنَّ التبريرات التي قدمها مقبولة أم لا؟ 
من الصعب القبول بمعطيات ما جرى، رغم أنَّ موضوع الانسحاب كان مطروحاً في أجندة الرئيس السابق دونالد ترامب، لكنه كان متردداً، وربما لديه معلومات مخابراتية بأنَّ الانسحاب غير المُنظم سيكون هزيمة أخلاقية وعسكرية للولايات المتحدة.
التبرير الرسمي الأميركي للانسحاب غير واضح، فما قاله وزير الخارجية انتوني بيلكن، بأنَّ احتلال افغانستان كان لمعاقبة المسؤولين عن أحداث ايلول 2001، يكشف عن تواضع تلك المعلومات، وعن محاولة تبرير النتائج الصعبة التي ارتبطت بسحب القوات الأميركية من أفغانستان وسقوط كابول بيد طالبان..
إنَّ أخطر معطيات ما جرى بعد السقوط هو الهوية القتالية لـ «جيوش الجماعات» التي قادت حروباً غير نظامية ضد جيوش كبيرة ومسلحة، والتي تتفوق بأعدادها وأسلحتها، لكنها لم تستطع فرض معادلة النصر والسيطرة، إذ فقدت القدرة على المبادءة والصمود.. فالمعلومات تؤكد أنَّ 80 ألف مقاتل من طالبان تمكنوا من احتلال 20 محافظة أفغانيَّة خلال وقت قياسي، وبعدها احتلال المحافظات الأخرى وصولاً الى العاصمة، وتسلم قاعدة باغرام الستراتيجية التي كانت مركز السيطرة الأميركيَّة في أفغانستان، وهو استسلام رمزي فائق الدلالة في سياق الصراع..
خسائر المؤسسة أمام الايديولوجيا له أبعاده الستراتيجية والتاريخية، فقد يتحول الى درس له مغزى، وله أثره الكبير على توصيف طبيعة الصراعات، وفي هوية المؤسسات وتوصيفها، ليس في أفغانسان فحسب، بل في عديد الدول التي تعاني من حروب ذات بعد إثني، حيث لم تستطع جيوش دول كبيرة حسم المعارك فيها، كما في اليمن وفي سوريا، فضلاً عن أثرها في تفكيك بنى عميقة للمؤسسات العسكرية التقليدية، كما حدث في ليبيا، وأخيراً في افغانستان..
 
أسرار وخفايا
قد تُثير أحداث أفغانستان أسئلة عميقة، وتنفتح على قراءات متعددة، تربط النتائج بمعطيات سياسة الولايات المتحدة، وتحولاتها الأخيرة للنأي بالنفس عن الصراعات الداخلية للدول، لكنها أيضاً تحمل معها أسراراً وخفايا، من الصعب التأكد منها، والوثوق بما يتهرب حولها من معلومات ووثائق واتفاقات، لا سيما تلك الأسرار التي تتعلق بما كان يجرى في أروقة «مؤتمرات الدوحة» بين الحكومة الأفغانية ولجنة المصالحة وحركة طالبان وبحضور أميركي غامض بقيادة الدبلوماسي الغامض خليل زاده الذي كان دوره مريباً في إدارة الملف الدبلوماسي والأمني في العراق خلال مسؤوليته كسفيرٍ للولايات المتحدة في العراق بعد احتلاله.
فهل سلمت الولايات المتحدة كابول الى طالبان بصفقة سياسيَّة وأمنية؟ وهل هناك أدوارٌ قطريَّة وإيرانيَّة وباكستانيَّة في هذا التسليم؟ وهل كان موقف حلف الناتو مهادناً لما جرى بهذه الطريقة المهينة؟
أسئلة توسّع من أفق البحث عن الأسرار، لا سيما أنَّ الحديث عن هزيمة الولايات المتحدة، ينعش آمال الروس والصينيين والإيرانيين، ويزيد من مأزق السياسة الأميركيَّة في الشرق، حتى وإنْ ادعت أنها ستكثف جهودها العسكريَّة والأمنيَّة في منطقة المحيط الهندي، وربما ستكون الجبهة 
القادمة مفتوحة مع الصين، بوصفها الخصم الجيوبولتيكي والاقتصادي الكبير في المنطقة، جبهة رخوة ومحدودة النتائج، لا سيما أنَّ السفارات الصينيَّة والروسية ما زالت تعمل في كابول، وتقوم بنوعٍ من التنسيق مع جماعة طالبان...
الحضور الكثيف لوفد طالبان، ومن أعلى المستويات الى الدوحة يؤكد وجود ما هو سري في الاتفاقات وفي الأحداث، مثلما أنَّ زيارات بعض شخصيات طالبان الى إيران ليس بعيداً عن تلك المعطيات، ولا عن صياغة عقد سياسي جديد في المنطقة، قد تكون إيران فيه لاعباً أساسياً، على مستوى تحويل زخم الصراعات، والحفاظ على أمن الملاحة البحريَّة في الخليج، وتقليل خيارات حرب الناقلات، وحتى «حرب الموانئ»، إذ ستكون هذه الحرب خياراً موجوداً رغم صعوبته، لا سيما بعد اتجاه الصين لتوظيف تلك الموانئ في مسار توسيع سياساتها الاقتصاديَّة، في طريق الحرير، أو في المسارات المائيَّة الأخرى، والتي ستكون مصدر قلق للولايات المتحدة التي لم تحسم صراعها مع ملفات النووي في كوريا الشمالية في إيران.
وحتى الحديث الأخير للولايات المتحدة الأميركيَّة عن بقاء مطار كابول تحت السيطرة العسكريَّة، مخصصاً لنقل ما تبقى من الجنود الأميركان، مع نقل كثيرٍ من الأسرار والمعدات، لا يعدو سوى نوع من «الكبرياء الواهم» رغم أنه قطع الطريق على حلمٍ تركي بالإشراف على المطار وبموافقة الولايات المتحدة، ولأسبابٍ تدخل ايضاً في حقل الخفايا والأسرار، وبموافقة قطرية طبعاً، ولا أظن أنَّ هذا الأمر سيحظى بموافقة طالبانية التي تريد أنْ تفرض واقعاً جديداً في إدارة النظام السياسي والعسكري، وحتى في إدارة الدبلوماسيَّة، لإبعاد شبهة الإرهاب والتطرف عنها، ولدعوة المجتمع الدولي للثقة بها، وللحصول على دعم من دول الجوار، حتى وإنْ اختلفت معها عقائدياً، إذ أعادت الجماعة بعض اليافطات والشعارات الحسينيَّة لمناسبة ذكرى عاشوراء في بعض المناطق بعد قيام بعض جماعتها برفعها..