ولادة أم ولادات؟

منصة 2021/08/22
...

  د.عبد الخالق حسن
 
الحديث عن أمر بحجم تأسيس الدولة العراقية الحديثة يحتاج إلى فهم عميق للحظات الحاسمة والمفارقات والتأثيرات الداخلية والخارجية، فضلا عن فهم عميق لطبيعة التركيبة السكانية للمجتمع العراقي. ولكن قبل الخوض في محاولات الفهم هذه، هل نحن أمام لحظة تأسيس واحدة، أم أن الدولة العراقية مرت بعدة لحظات للتأسيس اعتماداً على من يتسلم إدارة الدولة؟. هنا يمكن أن نقول إنَّنا لا يمكن أن نتحدث عن لحظة واحدة لهذا التأسيس، بل الحاصل أنَّ الدولة العراقية كانت تعيش لحظات ولادة متعددة ولم تستقر أبداً.فالعراق، مثله مثل كثير من دول المنطقة جرى بناء شكله الجديد، وفقاً لاتفاقيات دولية وتقاسم مناطق نفوذ بين بريطانيا وفرنسا بعد توزيع الإرث العثماني. وحين ظهر الشكل الجديد للدولة العراقية كانت الحالة السياسية منقسمة وتعيش صراعاً كبيراً بين اتجاه كان يرى بضرورة الانفكاك عن النفوذ البريطاني الجديد، بعد أن كان هذا التيار نفسه يحمل لواء التخلص من السيطرة العثمانية. وكان أغلب أصحاب هذا الاتجاه هم من الضباط العروبيين، الذين كانوا يرون أنَّ امتداد العراق العربي هو الذي يجب أن يقرر اتجاهاته وسياساته. أما التيار الآخر الذي كان خليطاً من الضباط والسياسيين فكان يرى أنَّه من الأفضل للعراق أن يكون مرتبطاً ببريطانيا لأنَّهم كانوا يعتقدون أنَّ بريطانيا هي المنقذ للعراق. وكان هذا التيار قريباً جداً من المندوب السامي البريطاني والمس بيل، التي لعبت أدواراً مهمةً في بروز هذا التيار الذي كانت له الغلبة على التيار الأول.
إذن، نحن هنا أمام ما يمكن أن نسميه اختلافا عميقا بين الآباء المؤسسين للدولة العراقية الأولى. وأقول هنا الأولى لأنَّني كما قلت في البداية إنَّ العراق شهد عدة دول باتجاهات وأنماط فهم مختلفة سنتحدث عنها لاحقاً. بعد أن ارتقى فيصل الأول عرش العراق، كانت الروح البريطانية هي التي تحرك الدولة برغم كل ما يقال عن محاولات فيصل في السير حثيثاً نحو الاستقلال. بعد وفاة فيصل سنكون على موعد مع حكم ابنه غازي المليء بالغموض والركود. ليرحل غازي في حادث سير غامض ويكون ابنه الصغير فيصل الثاني ملكاً بولاية ناقصة بسبب صغر سنه. هنا يمكن أن نتحدث عن دولة ثانية كان يقودها عبد الإله الوصي المشغول بالملذات على حساب إدارة الدولة، وأكاد أدعي أنَّه كان أهم أسباب المجزرة التي حصلت للعائلة لاحقاً لأنَّه سار بالدولة إلى الهاوية. ولولا أنَّه كانت لديه شخصية سياسية داهية بقيمة نوري السعيد، لسقطت الملكية قبل سنة 1958، التي مثلت الثورة فيها ولادة ثالثة لدولة عراقية حاولت أن تتحرك في منطقة الحكم الوطني، بعيداً عن دوائر النفوذ، لكنها سرعان ما انهدمت بالانقلاب العارفي الذي لم يستمر طويلا أيضاً، ليسقط بانقلاب جديد وولادة مشوهة لدولة عراقية رابعة اسمها دولة البعث كانت بلا هوية حقيقية. فهي لم تكن دولة وطنية. وحتى فهمها للعمالة والتبعية لم يكن مفهوماً لدينا لأنَّها متقلبة المزاج مثل من كان يقودها، ونقصد هنا طبعا (صدام حسين)، الذي أسس لدولة تقودها حلقات ضيقة من الأتباع، الذين كانوا مشغولين بإرضاء نزوات صدام وتثبيت سلطته والحصول على الامتيازات أكثر من انشغالهم بإدارة وطنية لدولة بقيمة العراق.
ومع انهيار حكم البعث وسقوط نظامه، نكون قد طوينا صفحات العراق الذي أسسته بريطانيا والتي كانت التقلبات هي السمة الأبرز له، لندخل في مرحلة ولادة العراق الجديد، الذي جاء على انقاض العراق البريطاني. هنا يمكننا أن نعقد مقارنة عن لحظة التأسيس الجديدة بين الآباء المؤسسين، الذين اختلفت اتجاهاتهم أيضاً مثلما حصل بعد الاحتلال البريطاني. فالاتجاه العروبي كان هو الأقل صوتاً. أمَّا الاتجاه الذي كان يدعو للارتباط بأميركا، فكان أيضاً لا يمتلك رصيداً كبيراً من القبول، بل إنَّ الداعين إليه في الغالب هم ممن يمثلون التيار العلماني، فضلاً عن الكرد. لأنَّ التيارات التي أدارت الحكم هي التيارات الإسلامية التي لم تكن على وفاق مع أميركا. كذلك فإنَّ الإدارات الأميركية مع تغيرها المستمر كانت تختلف وجهات نظرها للعراق بحسب نمط الإدارة. فالجمهوريون كانوا الأكثر شغفاً بالعراق، في حين أنَّ الديمقراطيين كانوا يرون أنَّ العراق ليس سوى مشروع فاشل وورطة تورطت بها أميركا، لهذا تركوا فكرة أن يكون العراق هو الأنموذج، الذي يمكن أن تبنى عليه فكرة نشر الديمقراطية في العالم العربي، خصوصاً بعد موجة الربيع العربي.
تأسيساً على ما مر، نرى أنَّ العراق سيظل مرشحاً دوماً لاستمرار فكرة ولادات الدول فيه، لأنَّ الانقسامات وتراكمات الانقلابات الدموية وسنوات الدكتاتورية جعلت منه منطقة رخوة غير متماسكة، فضلاً عن أنَّ هذه الانقسامات تسربت في لحظات كثيرة إلى المجتمع ليدخل في موجات عنف قاهرة.
لهذا يجب ألا نركن إلى العواطف في قضية تتبع بناء الدولة العراقية، ولا نكتفي بفكرة المجد التاريخي، لأنَّ أحد أهم أسباب فشل الأمم في بناء حاضرها ومستقبلها هو عيشها في الماضي والدوران حوله فقط من دون التحرك نحو المستقبل.