أ.د. مها خيربك ناصر
الثقافة فعل حياة، وفاعلية تأسيس وتجاوز، في اللحظة عينها، فهي حركة دائمة، لها مركزية أصل تتجاوزه نحو أمامٍ أكثر اتساعًا وجمالاً وحريّة وإبداعًا، أمامٌ يؤسس لمركزيات تلاقٍ وتجاوز قادرة على تجديد ذاتِها من ذاتها، ولذاتها، فهي، إذًا، فاعلية تحديث للنظم والعلاقات، وطاقة حذق وفطنة وفهم، وكمون تقويم وظفر وتهذيب وتعليم، بوصفها فضاء يحتضن أنواع المعارف كلّها، فتحصل منها وبها معرفة حقيقيّة للعلوم والفنون والحضارات ، فيتم بهذه المعرفة قدح النار الكامنة، وتوظيفُها في عمليات الإفصاح عن تطلعات أكثر جدة، وعن رؤى أكثر تعبيرًا عن جوهر الحياة، وطموحات إنسانها.
الثقافة، إذًا، لا يمكن أن تكون ردة فعل تفرضها مؤثرات خارجيّة، بل حاجة وجوديّة يرتبط تحققها بكمون الخلق الذاتي المفعّل برغبة المجتمعات إلى التأسيس والتطوير، لذلك ابتكرت كلّ مجموعة بشريّة نظامًا اجتماعيًّا، وحصّنته بالعادات والتقاليد والقيم والمعارف والفنون والعلوم، وجعلت منها مرتكز التواصل والتعاون في المجموعة البشرية عينها، أولاً، ومن ثم في عملية التواصل مع مجموعات أخرى لها، أيضًا، نظامٌ خاص ومعايير سلوكيّة تضمن سلامتها واستقلاليتها، بقدر ما تسمح بالتواصل والتفاعل والتعاون.
أنتج التقدّم العلميّ والتكنولوجيّ أنماطًا جديدة للفعل الثقافيّ، وكانت نهضة علميّة تدعو إلى الاعتراف بعولمة قرّبت المسافات، وألغت الحواجز الثقافيّة، وسهّلت الحصول على المعلومات، فكان لها فضل التواصل والتفاعل الاجتماعيّ والعلميّ والثقافيّ والفكريّ والحضاريّ، غير أنّ هذا التفاعل لا يمكن توصيف نتائجه بالإيجابيّة المطلقة، لأنّ بعض محاصيل هذا التفاعل كان سالبًا على مستوى فرادة الهويات الاجتماعيّة، وعلى مستوى البحث العلميّ والخلق والتجديد، لأنّ معظم الدراسات الجامعيّة والأبحاث العلميّة تمارس عملية القرصنة لملء صفحات البحث غير العلميّ والمناقض خصائص البحث العلميّ الهادف إلى التأسيس والتأصيل والإبداع والابتكار والتجديد.
أساءت العولمة إلى منظومة القيم الاجتماعيّة، ومشيعت نتاج الفكر المبدع، وسهّلت أساليب تزويره وقرصنته وسرقته، وفرضت على الإرث الثقافيّ تبدلاً في المفاهيم والقيم والعادات والتقاليد، لأنّ التطور التكنولوجيّ فتح أبواب المعلومات أمام كلّ متصفحٍ مواقعَ التواصل الاجتماعيّ، فشهد فضاءُ المعلومات الرقميّة تدفقًا غزيرًا لمفاهيم ثقافيّة منحت روّاد المواقع الالكترونيّة شعورًا بالامتلاء الوهميّ المرضيّ، وبترف ثقافيّ نتيجة كثافة المعلومات وغزارتها، وسهولة التواصل والتأثر والتأثير على معظم المستويات الفكريّة.
فرضت التكنولوجيا المعولمة تراجعًا على مستوى الخلق الفنيّ، ليحلّ مكانَ الجميل والمدهش والمتجدد، السطحيُّ والماديّ والتجاريّ، فسيطرت سيولة التلقي وتفاهة الأخبار، ولذلك تقلّص المنتج الإبداعيّ، ومورس على المبدعين الاغتيال الفكريّ، على الرغم من اتساع الفضاء الثقافي التفاعليّ على مستوى الفنون والعلوم والآداب جميعها، هذا الفضاء التوّاق، اليوم، إلى ثقافة تمنحه خصوصيته وهويته وفرادته.