بريد الأسى

ثقافة 2019/02/25
...

 
 أمير ناصر 
(داخلي ..
هو الوحيد الذي لا تهزه ريح..
داخلي هو من يهز نفسه . )
     
 يشهر عدنان الفضلي عنوان مجموعته الشعرية (بريد الفتى السومري) الصادرة عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق 2018 بكلمات ثلاث، فالفتى هو تعبير عن حقبة عمرية تقع بين المراهقة والرجولة، تقترن بزمن، والسومري هي كنية أو ربما انتماء، فالشاعر هنا يعلن عن انتماء هذا البريد (النصوص) لفتى (سومري)، والذي يبدو لي -على اقل تقدير- معناً غامضا، سرعان ما سيتنازل عنه بتقدم صفحات المجموعة، حيث ان المعنى العام في السياق تقلقه كلمة سومري، فلو تخطينا هذا الانتماء (السومري)، واستبدلناه بالعراقي (مثلا) لكانت الصورة متجلية أكثر وأعم، باعتبار العراقي بصورة او بأخرى هو سومري اصلا، اما البريد فهو نظام يختص بنقل الرسائل والطرود، (وهو في العربية المسافة بين منزلتين من منازل الطريق، وهي أميال اختُلِفَ في عَددِها)، لكنه بالأخير هو (إيصال) بالمعنى المباشر... إيصال أو استلام رسالة ، طرد،...الخ، لكن ارتباطها بصفة السومري تلزمنا ان نطالب مُنشئ هذه النصوص بالإيجاز والبرقية والتكرار التي هي صفات اعتاد عليها (العراقي/السومري) في خطابه الشفاهي والمكتوب، وفي ايصال رسائله وخطاباته مثلما هو معروف، الا أن المجموعة تشي بغير هذا، فهناك نصوص طويلة ( غير برقية ) وأخرى قصيرة، ففي نصه الأول المحكم والمصاغ بعناية والمفتوح على غيره من نصوص أخرى نجد أن الشاعر يقدم لنا سيّلا من الوصايا الكثيرة، وهو يرشدنا الى مفتتح قرائي يرينا ان هذا (الفتى السومري) يريد أن يحيطنا بمعرفة استباقية لما يدور هناك في (الناصرية) التي سرعان ما حلّت محل (سومر):
(قد يصادفك مشحوف، لم يكتب عليه لفظ الجلالة)، (ربما تسمع وأنت ذاهب الى الناصرية أصواتا لم تسمعها...)، (ستجد آثار البساطيل على طول الطريق...) (ستلاحظ ثمة مسرى على شكل زقورة تنتصب في ساحة عتيقة)، (يصادفك المخادعون والمخدوعون، يرفعون رايات المظلومية)، وحتى استخدامه  للشائع والمتداول من الحروف (الاعجمية) هو دليل آخر لهذا الانتماء مثل (المگاريد) و(حچي الچذب) إذ ان هذه الحروف(گ) و(چ)، تعد دخيلة على الحروف العربية، لكنها مستخدمة في المحكي  الشعبي الذي يقترن بمنطقة ما، هي مدينة الشاعر السومرية (الناصرية)، وربما هي متوارثة من اللغة السومرية، ففي نصه الذي يحمل عنوان مجموعته الشعرية (بريد الفتى السومري) نكتشف بسهولة ان هذا (الفتى) يتمرى، ولكن عبر صورة مضببة ومعكوسة حسبما يذكر في نصه:
 
(رمقت نجمة في أقاصي الجنوب
فانعكس الجنوب بريقا في مقلتيّ)
 فالصورة التي انعكست ليست بالضرورة هي الصورة الحقيقية لـ (سومر/ الجنوب) بل هي صورة متخيّلة ومشتهاة فقط (والناص) هو من يقوم برسمها، فكل عنصر من عناصر النص يجب أن يؤوّل في علاقته بالكل ، وفي آخر التحليل يمكن ارجاع العمل الى قصدية ما، او الى أصل ما، يضمن وحدة المعنى، والذي يرافق تحول الفتى او النص  من السومري الى العراقي الى الناصري ثم يستقر في البيت (الأسرة)، ففي نص (كيف..؟) ص23، يبرق الفضلي عدة رسائل الى فقيده (غزوان الابن) ويتساءل بـ (كيف) في
 كل رسالة: 
(كيف النسيان وصرير الباب يذكرني)، ( كيف اتقبله)، ( كيف سأحرسها)، ( كيف اتخلص من ظنوني)، (كيف ترحل)...الخ، حيث ينحسر البريد هنا في الاسرة، فالرسائل موجهة للغائب (الابن) والحاضر أصلا في الوجدان وفي أركان البيت من خلال شاشة الذكرى. 
في نص آخر وهو (قيصر المعدان) يتدارك الفضلي (انتماءه) (السومري) فتظهر في النص بعض الجمل الموحية الى تلك الروح: 
(عرش من قصب....)، (وتاج من ريش غرانيق الهور)، (يحكم باسم رب الخضرة والجريان)، (وحين يمر موكبه تحمله طيور الماء)، وبالرغم من كون هذه الصور (مصنوعة) لكنها موجودة أصلا في أدراج الذاكرة البعيدة والقريبة النقية والمضببة، يبدو لي ان الفضلي كان يقصد بالسومري المكان المتمثل في الجنوب العراقي، هذا الجنوب الضاج بالخسارات والفقد والحروب والفقر (يذكر الأزقة بخطوات الصبية الحفاة)، (حطبا لحفلات الشواء المجانية)، (الرايات التي تنشر على النعوش)، (لأم تولول على لحد).
نصوص عدنان الفضلي في مجموعته هذه تشي بالكثير من العلاقات، وخاصة التي يبنيها مع المكان، الذي يأخذ عدة اشكال بناء على تاريخه الطويل، فهو المكان الذي لا يموت بل يتمرى في امكنة أخرى، أمكنة ماضية وامكنة حاضرة، فبريد الفتى السومري؛ هو رسائل الانتماء والعودة رغم الخسارات 
والفقدان.