الفاعليّة الثقافيّة وسلطة كورونا

منصة 2021/08/26
...

أ.د. مها خيربك ناصر
تظهر حركيّة الفكر الكونيّ أنّ التطور الثقافيّ الحضاريّ يخضع لقوة الفعل التواصليّ الفيزيائيّ/ الكيميائيّ بين تراث الشعوب وعاداتها وتقاليدها ونظمها التربويّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة، لأنّ الثقافة، في رأيي، ليست إرثًا جامدًا، والفضاء الثقافيّ، أيضًا، غير مقيّد بجمودية النسق الموروث، فهو فضاء حر قادر على احتضان ما هو كائن، وما يجب أن يكون، فتتفاعل الثقافات، وتنتج الجديد والأكثر تعبيرًا عن هوية المكان وعن روح العصر.
عرف العالم، بفضل التطور العلميّ، ثورة علميّة حطّمت الحواجز المعرفيّة، وفاعلت الثقافات، وصهرتها في منظومات ثقافيّة ممهورة بالتفوّق على مستوى الفعل الحضاريّ الكونيّ الذي جعل من العالم قرية كونيّة يتواصل أفرادها، ويتبادلون الخبرات والمعارف، غير أنّ هذه السلطة العلميّة المتفوّقة هزمها فيروس صغير لا يرى بالعين المجردة، فأعاد التقسيمات الجغرافية وأقام حواجز مادية ونفسيّة بين سكان البناية الواحدة، وألزم أبناء الأرض أن يتوحّدوا تحت سلطة الخوف من الآثار السلبيّة المخيفة التي اجتاحت الحواجز الجغرافيّة والعرقيّة والطائفيّة والمذهبيّة والطبقيّة، وأعلنت بصمت قاتل المساواة بين أفراد هذه الأرض من دون تمييز.
وحّد فيروس كورونا أبناء البشريّة، نفسيًّا، تحت راية واحدة ترفع شعار الخوف، وأمعن في عزلهم جغرافيَّا واجتماعيًّا، وصار التباعد الاجتماعيّ واقعًا وحاجة تفرضها السلامة والنجاة، فأغلقت معظم دُور العبادة، ومراكز الترفيه، والمراكز الثقافيّة، والمدارس والجامعات، ودور السينما، وصالات العرض المسرحيّ، وتعطّل الدور الإيجابيّ للمهرجانات والأمسيات الشعريّة والمسابقات الفكريّة، وأصيب الاقتصاد العالمي بالركود والتراجع على مستوى التجارة العالميّة.
مما لا شكّ فيه أنّ الاقتصاد العالميّ مصابٌ بكارثة أعاقت حركته بعد عملية العزل القسريّة، وهذه الكارثة يمكن التخفيف من نتائجها السلبيّة إذا ما استطاعت منظمات الاقتصاد العالميّ أن تبتكر آليات جديدة قادرة على تحريك عجلة الاقتصاد، غير أنّ سلطة كورونا على مستوى الفاعليّة الثقافيّة يصعب التحرّر منها، على الرغم من تنشيط عمليات التواصل عبر المواقع الالكترونيّة التي فتحت فضاءاتها لملتقيات لا حصر لها، غير أنّ هذه الملتقيات لم تفعّل مختبرات التفاعل الفكريّ وآليات الحوار والنقاش والتأثر والتأثير والتوليد، ولم تفكّ عزلة الحراك الفيزيائيّ/ الكيميائيّ بين المفكرين، لأنّ التفاعل يتوقف بتوقف الشاشات عن البث، وتباح المعلومات، وتخضع للسرقات والتأويل والتفسير غير 
المنطقيّ. 
إنّ الخوف من قدرة كورونا على الفتك بالأرواح البشريّة يوازيه خوفٌ من الفتك بروح الفاعليّة الثقافيّة التي بها وحدها يكون النور المعرفيّ ويتحقّق الوعي، وتُنبذ المعلومات الخاطئة والمضللة الهادفة إلى خلخلة البنى الاجتماعيّة والثقافيّة، وإلى اغتيال الأفكار غير المرغوب فيها ومصادرة الحقائق غير المتطابقة مع المصالح السياسيّة والسلطويّة، ورفض كلّ جديد ثقافيّ قابلٍ التفعيلَ والتوليد، فيكون الغرق في عتمة الإعادة والتكرار والصنميَّة.