الموصل في عيون الغرباء

منصة 2021/08/28
...

  غفران حداد
 
لم يعد المواطن/ة البيروتي يستغرب من حياة العتمة التي يعيشها في ظل الانقطاع الدائم للكهرباء أو رؤية مشهد سير عروس برفقة عريسها وبفستانها الأبيض في ظلام الشارع وهما يصعدان الدرج نحو منزل الزوجية وسط زغاريد الأهل على ضوء الموبايل الخافت.
لكنه/ها يستغرب من رؤية ابتسامة وسماع ضحكات مغترب/ة يعرفون من بعض مفردات حديثه أنَّه من أبناء مدينة الموصل شمال العراق.
فذاكرة البيروتيين عن الموصل مليئة بمشاهد التهجير والنزوح بعد سيطرة عصابات داعش الإرهابيَّة عليها ومشاهد توابيت المغدورين ومجزرة سبايكر وما تبعها من صور وأخبار تحرير المدينة على يد القوات العراقيَّة.
وأنت تقف بطابور طويل للحصول على تنكة بنزين لتشغيل مولدة المنزل ولتبديد ساعات الملل والضجر في انتظار دورك، فيكون الحديث عن أوضاع ومآسي بيروت لكن بعض المسنات البيروتيات اللواتي عشن سنوات حياتهن في مدينة الموصل بمجرد أنْ يعرفن من لكنة بعض حديثك أنك موصلي أو عشت جزءاً من حياتك في هذه المدينة يغيرين الحديث إليها ويذكرونها بأجمل الكلام وهن معجبات بمقاماتها ومعالمها ووصفها بالجمال والرقيّ.
بعض اللبنانيين/ات لم ينسوا سنوات 
ازدهار التجارة والصناعات المحليَّة في الموصل ويتحدثون عن «أيام الخير» والرزق الوفير والمشاريع التي اشتركوا بها مع موصليين في معامل الدبس والراشي والمخللات.
ترى في عيونهم بريق الجمال والإعجاب عن بيوت الموصل التراثية القديمة التي عاشوا فيها ودقة طرازها، أو حياة السلام والمحبة التي تجمع المسلمين والمسيحيين في حي وزقاق واحد ، ومشاركة طقوس وأعياد بعضهم البعض حيث لم يفرقهم دين او لغة او لهجة حيث كانت الموصل ومازالت نسيجها الاجتماعي متماسك برغم الحروب والفتن التي ابتليت بها.
ما زلن اللبنانيات اللواتي عشن مع أزواجهن في مدينة الموصل لأجل العمل في عقد السبعينيات والثمانينيات يستذكرن بفرح كبير حياة المدينة وناسها وحنكة الزوجة الموصلية التي (تمسك جيبة الزلمة) من حيث المصاريف ولا يتصفن بالتبذير وتدبير الأمهات الموصليات في توفير المؤونة الشتوية أوائل فصل الخريف بتخزين البرغل والقمح والرز والسمنة وحتى الجوز والعسل ودبس التمور، وهذه العادة تتمسك بها أيضاً المرأة اللبنانيَّة خصوصاً في القرية الريفيَّة (الضيعة) في تحضير المؤونة من أيام فصل الصيف حيث موسم الكرز والمشمش وكل ما يباع من فواكه وحبوب.
يستغرب كثيراً المواطن/ة العراقي الذي يعيش منذ سنوات طويلة في لبنان من عمق المحبة على لسان اللبنانيين ممن عاشوا بضع سنوات في الموصل.
ترى بريق الدمعة في أحداق عيونهم وهم يتحدثون عن جمال المدينة قبل سيطرة عصابات داعش عليها، يستذكرن (حمام العليل) الذي كان يذهب إليه أزواجهن وسعادتهن كبيرة بعودة الحياة إلى الكثير من الأماكن الترفيهيَّة ومنها (حمام العليل) بعد تحرير المدينة فهو يشكل جزءاً من ذكريات أزواجهن السعيدة فيه.
يستذكرن الشوارع الموصليَّة وناسها وتفاصيل هذه الشوارع من المقاهي وطقوس الزواج والختان والتقاليد الاجتماعية عامة مع كل خبر أو مواطن يعلمون انه عراقي الجنسيَّة.
ورغم مذاق الأكلات البيروتيَّة اللذيذة تؤكد النسوة اللبنانيات إتقانهن طهو الكبة الموصليَّة المحشوة باللحم والفستق والزبيب ويسمونها بـ(كِبة العَيلة) كون طريقة صنعها بمقاس كبيرة الحجم تكفي لجميع أفراد الأسرة، ويتساءلن هل جرزات وحلويات الحاج سلطان وأولاده في شارع خزرج وسط مدينة الموصل القديمة لا يزال موجوداً؟ ويعرفن تاريخ إنشاء المحل في العام 1935 وانَّ جميع سكان الموصل يعرفونه.
النساء اللواتي زرن الموصل عشقن الحياة فيها، أما ازواجهن فيصفون الفتاة الموصلية بـ(الصبية العاقلي المدبرة الأصيلي المصنصلي) والمصنصلي يقصدون بها الفتاة الخالية من أية شوائب.
بعد أربع ساعات من الثرثرة الجميلة جاء دوري لشراء البنزين، ودعت الحاجة أم صائب وسلفتها وزوجها وهم يؤكدون لي «ستعود الموصل كما كانت الموصل» وستعود بيروت «بيروت».
وأنا أتمنى ذلك.