تراتيل للشعر

منصة 2021/08/28
...

أ.د. مها خيربك ناصر
الشعر فيض ذات مبدعة تعي أنّ في اقترابها بعدها، وفي حضورها غيابها، وفي غيابها حضورها، وفي معرفتها جهلها، وفي جهلها سعيها، وفي سعيها حلمها، وفي حلمها سفرها، وفي سفرها شواطئ شوقها حيث يصير الأمن قلقًا، والوصول ابتعادًا، واللقاء فضاءات سفر، فيستعصي لقاء الأنا أناها.. لأنّ الشعر سؤال لا تدركه الإجابات، وجوابٌ لا تعرفه النهايات، وبحث عن معنى لا تمسّه الذوات.
الشعر ومضة برق يتجاوز ألقُ بوحها ما يمكن مقاربته من الحقائق المعرفيّة المُدرَكة، فيولّد رعدُ لقاء اليقين باللا يقين أصواتًا مشحونة بطاقات تأويليّة تتقمصها ألفاظٌ تتعالق في تراكيب تتسع ظلالُها الدلاليّة باتساع ضوء البرق وصوت الرعد، فيكون بحث عن حقيقة تبقى عصية على القبض والسجن، وحرّة طليقة في مراتب لذة الوصول والبلوغ.
الشاعر المبدع، وفق ما تقدّم، لا يقولُ أحاسيسَه ومشاعره، بل تقولُه مشاعرُ وأحاسيس وحقائق ومعارف وطاقات تتفاعل في مختبر ذاته الخالقة الخاضعة، في لحظة ما، لفعل البرق والرعد فيساقط ضوء البرق ماءَ حياة يحيا بها وتحيا به، فتنسلّ الكلمات من ضجيج أمواج الشوق المعرفيّ، وتنجدل غيم بوح وأغنية حلم في لحظة لا زمكانيّة يرتقي فيها وبها شاعر مبدع مراتب التجلي والكشف، حتى يشعر أنّه الكل المتحدّ في ملكوت نورانيته الخالقة، حيث يكون انخطافه، ويكون رشح البوح الصادق.
 فالشعر الحقيقيّ، إذًا، لا علاقة لها بالكم بل بالنوع، فكما أنّ كمية الأمطار تتفاوت بتفاوت قوة فعل البرق والرعد كذلك يتفاوت حجم ماء الفكر المبدع لحظة الانخطاف والتجليّ، ولذلك يمكن القول إنّ التفاخر بإنتاج نصٍّ شعريّ كلّ يوم ما هو، في الحقيقة، إلاّ تفاخر بصناعة سلعٍ معروضة للمدح وللبيع والشراء والعرض والطلب في مزادات الشلليات والإعلام، صناعة لا تعترف بها أصالةٌ لا تبلى جدتها.
إنّ الشعر الناطق بفعل البرق والرعد روحٌ لا يلذ لها الحياة في مطولات سرديّة إخباريّة ووصفيّة، إنّه هيولى معرفيّة كونيّة، تغيب معها الأسماء، ويبقى المسمى ليجدّد ذاته بذاته، فيساقط الشعر غيث لحظات تأمّلٍ أنا خالقة، رأت في ذاتها كونها، وفي كونها ذاتها، فعبرت رحلة بين ظاهر وباطن، رحلة لا مستقرّ لها، ولا جواب يعينها على الوصول، فتكوّرت أسرارًا بين نقطتي عبور منها وإليها، واحتضنت سؤالَها قدرًا يمروح التجاءاتها، في ارتحال حيث المكوث، وفي قلق حيث الطمأنينة، وفي تمرد حيث القبول، إنّه الشعر.. سؤال شرنقة الأنا المدركة معناها....