سارة خاتون.. ملحمة حياتيَّة وشعبيَّة تروى الى الأبد

منصة 2021/08/28
...

  عفاف مطر
سارة خاتون، فتاة عراقيَّة اشتهرت بالكرامة والعفة والكرم منذ صغر سنها منذ كانت في الثامنة عشرة من عمرها، ويعدّها البعض رمزاً وأنموذجاً للثقافة العراقيَّة، وآخرون يعدّونها رمزاً وأنموذجاً للتعايش العراقي، لكنَّ الكل يتفق على أنها شخصيَّة جميلة ومبعث للفخر والاعتزاز. القصة الحقيقيَّة لسارة خاتون فيها من الدراما والواقعيَّة والمثاليَّة لدرجة كبيرة. فبالرغم من صغر سنها إلا أنها تحدّت وقاومت الجاه والسلطة لذا هي تعدّ جزءاً مهماً من الموروث العراقي.
منطقة كمب سارة
من المؤسف أنَّ الكثير من العراقيين يعرفون منطقة كمب سارة في الحي الصناعي في بغداد، لكنَّ الكثير منهم لا يعرف ولم يسأل نفسه: من هي سارة؟ ولدت سارة في بغداد عام 1893 من أسرة أرمنيَّة استوطنت العراق منذ ستمئة عام مضى، أبوها يدعى أونستيان، وهو رجل صاحب أملاك كثيرة جداً، لدرجة أنه قيل إنّ أملاكه يحتاج فيها القطار ساعة كاملة ليجتازها، إذ كانت أملاكه تتوزع بين الحلّة والكوت وكربلاء وبغداد، توفيت والدتها ومن ثم أختها الصغرى ومن بعدهما والدها، فأصبحت وحيدة وتحت رعاية عمها سيروب،عمتها صوفيا كانت المقربة الوحيدة من سارة، إذ كانت تحبها وتعطف عليها كثيراً لهذا تعلقت بها سارة كثيراً حتى أنها أسمت ابنتها صوفيا حباً بعمتها. بدأت قصتها في العام 1910 تقريباً، حينها كان ناظم باشا والياً لبغداد، وناظم باشا كان قد زار فرنسا سابقاً وتأثر بالثقافة الفرنسيَّة، فأراد أنْ يقيم حفلة راقصة في النهر على متن زورق فخم، وحينها لم تكن الطبقة المخمليَّة معتادة على هذه الأجواء، أجواء الرقص والأضواء في وسط النهر، وقد دعا ناظم باشا الى هذه الحفلة القناصل وزوجاتهم والأسر الأجنبيَّة والمسيحيَّة ومن بينهم كانت سارة التي جاءت برفقة عمتها صوفيا، وكانت ترتدي الزي العراقي التقليدي في ذلك الوقت وتضع (البوشية)، لكنْ في الحفل خلعت البوشية تماشياً مع أجواء الحفلة، ورآها الوالي، وأعجب بجمالها، على الرغم من فارق السن بينهما، إذ كان حينها في الخمسين من 
عمره.
 
أبت أنْ تكون محظيَّة
سارة رأت في ناظم باشا السند الذي من الممكن أنْ يحميها ويقف في وجه عمها وظلمه لها، فأرسل ناظم باشا لعمها سيروب وابن عمها تانيال ما مفاده أنه مستعد أنْ يترك كل الأملاك لهما مقابل أنْ يحضروا سارة له محظيَّة وليست زوجة، فحاول ابن عمها الضغط عليها للموافقة لكنها أبت أنْ تكون محظيَّة وليست زوجة، فحاول تانيال أنْ يختطفها ليستولي على 
أموالها.
منزل سارة كان على ضفة النهر، فقام تانيال باستئجار بعض الشقاوات وأخذهم على متن زورق بهدف اختطاف سارة وإرسالها لناظم باشا، لكن محاولة تانيال فشلت، لأنَّ سارة قامت بالصراخ فاجتمع بعض الفلاحين الذين كانوا يحرثون قريباً من ضفة النهر وهجموا على تانيال وشقاواته بالخناجر والمناجل والفؤوس، فهرب تانيال ومن معه ونجت سارة من محاولة الاختطاف هذه، التي لم تكن الوحيدة، إذ بعد ذلك حاول ناظم باشا أنْ يختطفها هو، فأرسل بعضاً من الجندرمة والدرك والحرس لاختطاف سارة، لكن الخبر وصل سارة قبل وصولهم فهربت من بيتها ولجأت الى بيت القنصل الألماني، ولو علم ناظم حينها أنَّ سارة في بيت القنصل لاقتحم القنصليَّة وبيت القنصل، ولأنَّ القنصل الألماني يعلم ذلك جيداً، أودع سارة في بيت داود النقيب، فالنقيب لديه مكانته الخاصة لدى الجميع؛ ذلك أنَّ نسبه يرجع الى عبد القادر الكيلاني، لكنَّ سارة لم تبقَ في بيت داود طويلاً، وعند خروجها كان الجندرمة والحرس في انتظارها، لكنَّ أهالي بغداد في منطقة باب الشيخ وقفوا سوراً منيعاً بينها وبين الجندرمة ونجت من محاولة الاختطاف الثانية، فلجأت هذه المرة الى القنصليَّة البريطانيَّة؛ ذلك أنها تعلم جيداً أنَّ ناظم باشا لن يتجرأ ويهاجم القنصليَّة البريطانيَّة، لكنه علم أنَّ البريطانيين سيضعونها في السفن البريطانيَّة الخاصة بالشحن، ويتم نقلها مع البضائع الى البصرة، وحين وصلت البصرة تم لفها بسجادة وتم إنزالها من السفينة وبذلك نجت من محاولة الاختطاف الثالثة، ومن البصرة وعبر سفينة بريطانيَّة سافرت الى بومباي في الهند؛ لكنَّ ناظم باشا سخر كل الجندرمة لتتبع 
أخبارها.
 
الاختباء في بومباي
في العام 1911 تزعم حزب الاتحاد والترقي السلطة في الاستانة وكانوا يعلمون بأنَّ ناظم باشا ارتكب حماقات كثيرة فتم عزله، وطُلِبَ من سارة أنْ تختبئ في بومباي قليلاً من الوقت حتى يخرج ناظم من بغداد ويعود الى اسطنبول، وبالفعل لم يحظ ناظم باشا بسارة ورجع الى اسطنبول وترك لها رسالة يخبرها بها أنه يحبها، لكنَّ سارة لم ترجع الى بغداد، بل سافرت الى باريس وتزوجت من رجل ثري، يدعى دانيال اسكندريون. في العام 1915 حدثت مجازر الأرمن في تركيا وقُتل فيها أكثر من مليون أرمني، وآخرون 
هجروا ودخلوا العراق وسوريا.
 في العراق سكنوا بغداد، أربيل، والموصل ودهوك ووصلوا الى البصرة. 
عام 1918 عادت سارة الى العراق بعد وفاة زوجها وبصحبتها ثلاثة 
من أبنائها، لكنها هذه المرة كانت إمرأة ثرية وفائقة الجمال وناضجة، وجدت سارة أنَّ كمب الأرمن صار مزدحماً وضيقاً 
بسبب لجوء أكثر من سبعة عشر ألف أرمني إليه، فاشترت أراضي كبيرة وأعطتها للأرمن بثمنٍ بخس، بنى عليها الأرمن بيوتهم وصارت المنطقة تعرف بكمب سارة، وصارت سارة خاتون حديث الناس في البيوت والمقاهي والتجمعات
 الثقافية.
فصل مهم
ماتت سارة خاتون في الستينيات 
وهي لا تملك فلساً واحداً، وقامت خادمتها وسائقها اللذان بقيا معها من دون 
راتب حباً ووفاءً لها، بدفنها 
على حسابهما الشخصي، إذ أنفقت كل ما تملكه على الفقراء والمعوزين، ليس الأرمن فقط بل ومن كل الديانات، فصارت سارة رمزاً للتعايش 
وفصلاً مهماً من فصول التراث العراقي.
تغنت الكثير من المطربات بقصة سارة، مثل صديقة الملاية وزكية جورج وغيرهن، فكل البستات التي تحكي قصة فتاة صغيرة يطاردها رجل كبير كانت عن سارة، وكل البستات التي تغنت عن الوالي كانت عن ناظم
 باشا.