د. مها خير بك ناصر
تكشف مناهج تدريس اللغة العربيّة، في معظم الجامعات العربيّة، عن أنّ طرائق التدريس تفتقر إلى معايير لغويّة/ علميّة تضمن تحقّق الأهداف، لأنّ العملية التعليميّة اقتصرت على التلقين والحفظ والتكرار والإعادة، من دون التركيز على معايير يمكن الرجوع إليها في تقييم الجودة وتحقيق الكفاية اللغويّة، فكانت النتيجة حال اغتراب ورفض ونظرة دونيّة للغة العربيّة؛ لأنّ المناهج الجامعيّة لم تُسند عملية التعليم إلى منطق اللغة وإلى قوانينها النحويّة الرياضيّة، ولم تحرّض على التفكير اللغويّ العلميّ التحليليّ المنطقيّ.
تقترن عملية التعليم اللغويّ بمهارات قادرة على تنشيط الجوانب الإدراكيّة والوجدانيّة، وعلى توظيف عادات الفكر في عملية التحليل والربط والاستنتاج، لأنّ الهدف من تدريس اللغة العربيّة لا يقتصر على جانب التواصل اليوميّ، ولا على اتقان اللغة المحكيّة ومعرفة اللهجات، التي تنتج عددًا لا متناهيًا من الخطابات ذات القيمة التواصليّة المحليّة والآنيّة، بل إن الهدف الرئيس يكمن في قدرة متعلم اللغة على التواصل الفكريّ والثقافيّ والمعرفيّ والوجدانيّ، مع التراث الفكريّ والأدبيّ والحضاريّ والدينيّ والاجتماعيّ والعلميّ، وفهم دلالاته، وربط مضامين هذا التراث بحالات إنسانيّة مماثلة أنتجها فكر نطق بلغة انكليزية أو فرنسية أو صينيّة أو غيرها.
تحتاج مناهج تدريس اللغة العربيّة إلى منهج علميّ، أساسه معرفة الثوابت والمتغيرات المعجميّة والنحويّة، وتطبيق آليات الاستقراء والفرز والتفكيك والتركيب والتجريب والقياس والنقد والتحليل والاستدلال والاستنتاج، ومن ثمّ طرح الأسئلة، وابتكار الفرضيات، وتوظيف معطيات اللغة والمعايير العلميّة والأكاديميّة، فيتعرّف المتعلم إلى العلاقات التي تربط بين بنيات النصّ، ويقارنها مع علاقات بنيات نصوص أخرى، ثم يقوم بتحديد وظائف العناصر من خلال سياقاتها المتنوّعة، التي تمنح العنصر اللغويّ قيمته النحويّة والدلاليّة، ويمنحها العنصرُ التماسكَ والترابط والمروحة التأويليّة، بفضل قوانين التعالق الفيزيائيّة والكيميائيّة والرياضيّة.
إن مسؤولية معلّم اللغة العربيّة مسؤولية أخلاقيّة وعلميّة وقوميّة، لكونه مسؤولاً عن تطوير آليات تعليم اللغة الإجرائيّة وتقريبها من ذهن المتلقيّ، فتكون اللغة أداة تفعيل للطاقات الفكريّة المعرفيّة وتطويرها، وعامل تقريب وجداني وتواصل عقليّ مع ما أنتجه العقل العربيّ وما ينتجه وما سينتجه، فتحقّق عملية التعلُّم والتعليم أهدافًا ثقافيّة وإنسانيّة وحضاريّة، لأن اللغة وحدها قادرة على إنضاج التجارب الإنسانيّة، وتقليص المسافات الوجدانيّة بين العربيّ وغير العربيّ.