الفضاء القصصي في مجموعة «لن تهدأ»

منصة 2021/09/09
...

 كمال عبد الرحمن
 يشتمل الفضاء القصصي على عدد كبير من المفاصل والجزئيات تختلف من نص إلى آخر، وسنناقش في هذه الدراسة عنصرين من عناصر الفضاء القصصي، هما (المكان) و(الزمن)، ففي فضاء (المكان)، يمكن أن نرصد في هذه المجموعة أنواعاً من المكان، حيث يظهر (المكان المفتوح) و (المكان المغلق)، وكذلك (المكان الأليف) و (المكان المعادي)، وغيرها، وفي فضاء الزمن، هناك (الزمن الواقعي) و (زمن السرد) و(الزمن الاستباقي) و (الزمن الاسترجاعي و (الزمن النفسي).
 لقد ذهب السرد القصصي العربي الحديث مذاهب شتى في تجريب أشكال قصصية ورؤى وأساليب لا حصر لها، في سبيل اقتناص لحظة تفرد أو لحظة استثناء في مشهد ملون شاسع يمور بالأشكال ويعج بالأسماء، وجاء عمل (جينت) المعروف بـ (خطاب السرد) سنة 1972 ليكمل المشروع الذي يحدد ميدانين للتوافق بين المتن الحكائي والمبنى الحكائي وهما: الزمن ووجهة النظر حسب النقد الانجلو- أمريكي ، والتي تطورت مع (جينت) إلى ما يعرف بالتبئير. 
 إن من أكثر المحاولات دقة في تحديد مفهوم (الفضاء السردي)، هي محاولة محمد البوريمي، حين حدد الفضاء بأنه «الحيز المكاني الذي تتمظهر فيه الشخصيات والأشياء متلبسة بالأحداث تبعاً لعوامل عدة تتصل بالرؤية الفلسفية، وبنوعية الجنس، وحساسية الكاتب».
ويطرح هذا المفهوم جوهر موضوع الفضاء في النص السردي، المتمثل بطريقة تشكله المستندة في الأساس على رؤية المؤلف – خالق النص- أولاً، وطبيعة النوع أو الجنس الأدبي ثانياً، وهما مرتكزان في العملية الإبداعية.
 ومن هذا المنطلق جاءت مقاربة عبد الملك مرتاض لمصطلح الفضاء، فهو يرى أنه ليس المكان وحده، ولا الزمن، ولا وجهة النظر، بل هو كل هذه العناصر معاً في مزج جمالي وفكري، يتم الكشف عنه بوساطة بناء النص وأسلوبه وصوره ولغته المجازية، مشكلاً بذلك – من الفضاء- الأفق الحاوي لكل المكونات السردية مثل: الشخصية ، الحدث ، والزمن ، والمكان.
 ويشتغل القاص ناظم علاوي في مجموعته هذه (لن تهدأ) على أنواع من المكان، ومن ذلك (المكان المغلق)، الذي يتمثل بالمقهى، الذي تقع فيه أغلب قصص ناظم علاوي: «الاوجاغ» مكانه منذ عشرات السنين، يمين الداخل إلى المقهى وقد تحدب بناؤه المبني بالآجر المرصع بمربعات منتظمة لقطع الفرفوري – كأنه هرم- ينوء بثقل المحمل الحديدي الصدئ الزاوية، والمصبوغ باللون الأبيض المستقر عليه بشيء من الارتباك (السماور)، الذي يتم به غلي الماء.
 وفي قصة (يقظة – وبعض حلم) يعود المقهى مرة أخرى ليشكل فضاءً واضحاً في النص.
 وإذا كان المقهى بوصفه مكاناً محايداً، لا يستطيع أن يؤسس لتلك الألفة والحميمية التي يؤسسها البيت، فإنه يمنح رواده نوعاً من الألفة الخاصة أو الدفء الإنساني الذي يربط الرواد، بصفتهم شخصيات دائمية أو طارئة.
 لكن (البيت) هو النوع الآخر من المكان المغلق، لا يحق لنا تسميته إلا بـ (المكان الأليف)، ويوضح ذلك قول باشلار: «البيت هو ركننا في العالم، إنه، كما قيل مراراً، كوننا الأول، كون حقيقي بكل ما للكلمة من معنى، وإذا طالعنا بألفة فسيبدو أبأس بيت، جميلاً».
يشكل (البيت) في قصص ناظم علاوي في (لن تهدأ) فضاءً سردياً متفاوتاً في التشكيل والشخوص والأحداث، ففي قصة (رَمُّو) –مثلاً- يشكل (البيت) على الرغم من حميميته مصدراً من مصادر الأسى والألم:  «بعد أن أخرج الأهالي وفرق الإسعاف جثث القتلى بحثوا عنه ليودعهم ويلقى عليهم النظرة الأخيرة، لكنه اختفى وماتت الابتسامات والضحكات في فمه، لقد أكد جاره أنه رآه يقترب من أنقاض بيته، ليحمل رقعة رقم داره وقطعة خشب كتلك التي يستخدمها الخطاطون – لم يستطع أن يستوضح عباراتها- وقبضة تراب من بيته ضمها بقوة إلى صدره، ومضى، ومنذ ذلك اليوم المشؤوم مستصحباً بقرته معه».
 وما أن يفقد (رمُّو) بيته في القصف الذي دمره، حتى يذهب إلى محلة أخرى ويحاول أن يؤنسن مكاناً آخر في بث الحميمية في بيته الجديد:
وفي قصة (دفء الثلج) يظهر المكان المفتوح واضحاً في فضاء الجبل الذي تتشرنقه الثلوج، فيتحول إلى كتلة بيضاء تمتد من السماء إلى الأرض، حيث تتشوه المعالم وتختفي الملامح ويغطي البياض التضاريس، حتى يصل إلى مرحلة قد لا تعرف فيها التل من الوادي والقمة من طنوفها:
 «ليل شباط المبيض بالثلوج المنهمرة ، تواً... تمزقه أصوات الطلقات النارية وانفجارات القنابر، فيتآكل إحساسه نحو دفء بيته المحشور في رأسه، حيث روحه/ نصفه الجميل.. الآن هادئة.. وحالمة بموعد منتظر وهو يعلن قدومه الجميل ولكي تطيب انحناءات نومهما.
تدحرج من أعلى قمة (جبل ماوت)، بعد أن اخترقت ساقه شظية لعينة، متجهاً قدر استطاعته نحو أبعد نقطة عن هذا البركان المحتشد بالفوضى والألم والمرارة».
 أما الزمن فقد شكل منذ القدم هاجساً خطيراً فلسفياً حضارياً لدى الإنسانية عامة، والأدباء بخاصة، فهو في مفهومه الفيزيقي العصب الرياضي، الذي تتمكن الحياة فيه من ضبط حركتها أو تنظيم مسيرتها وتشكيل أنموذجها، أما في مفهومه الأدبي: «فقد عصا فهمه وأضحى لغزاً حيّر الكثيرين».
 كما أن الزمن من العناصر الأساسية المكونة للنص عامة والنص القصصي بخاصة فهو «عنصر جوهري في المقاربة الروائية، ودراسته تبرز طبيعة العلاقة القائمة بين السارد والحكاية المسرودة بما هو زمن يتميز بتعدد الأبعاد».
كما يشتغل أيضاً في قصة (الوشم) على الزمن الاسترجاعي، والاسترجاع هو «ذكر لاحق لحدث سابق للنقطة الزمنية التي بلغ بها السرد».
 وغالباً ما يكون الزمن الاسترجاعي هو مذكرات أو ذكريات عن وقائع أو أحداث ماضية، وهذا واضح في هذه القصة: «انه زمن طويل ارتحل خارجاً عن رتاج جسده من دون رجعة بعد أن حفر على جبهته تجاعيد خطوط تنبئه عن عمره، الذي غادره مثل رصاصات طائشة انفلتت في الأثير، سقطت نضارته الذابلة والمسهدة مثل عيني صقر تحاول أن تعثر على أحجية».
 أما الزمن الاستباقي فهو «تقنية سردية تدل على حركة سردية تروي أو تذكر بحدث لاحق مقدماً»،  أي إنه – الاستباق- يروي أحداثاً سابقة عن أوانها أو يمكن توقع حدوثها. أما الزمن النفسي، فيختلف اختلافا جوهريا عن الزمن الطبيعي (الواقعي)، فإذا كان هذا الأخير يخضع لمقاييس موضوعية ومعاير خارجية تقاس بالسنة واليوم والصباح والظهيرة والمساء والليل والنهار، فإن الزمن النفسي لا يخضع لمعايير خارجية أو مقاييس موضوعية كالتوقيتات المتداولة، وإنما يمكن معرفته وتحديد سرعته أو بطئه من خلال اللغة التي تعبر عن الحياة الداخلية للشخصية.ويأتي الزمن النفسي المتباطئ عندما تتعرض الشخصية للحزن والقلق وهذا واضح في قصة «رمو»: «يجلس عند آخر بيت من محلتنا، يمسح وجهه الحزين بذيل كوفيته، التي أصبحت بديلاً عن شعره المتساقط، وذهب بياضها وانطلى بصفرة مريبة، يظل ساعة، وربما أكثر في مكانه لا يكلم أحداً، ولا يحاول أحد أن يقتحم خلوته».
وفي مفهوم (الفضاء القصصي) عاين القاص ناظم علاوي في مجموعته (لن تهدأ) قصصه بوصفها نصوصاً سردية تنبثق من أفكار عميقة ورؤية خاصة، تتشكل ضمن بنية موضوعية وفنية ذات امتدادات شديدة التنوع والاختلاف يجسدها حرص القاص علاوي على إظهارها بالصورة المثلى والتشكيل الفني الأفضل، بأسلوب سردي خاص يعتمد البساطة بالتعبير والعناية باللفظة مع تقديم المعنى الإبهاري للنص، وتوسع في بيان وعي وثقافة ناظم علاوي في مجال السرد القصصي عامة والفضاء القصص بخاصة.